قال الراوي وفي نبرته تنضح أحزان قلبه : شكوت إلى صاحبي ما أسمعه مرارا وفي أماكن متفرقة ، وأقرأه أحيانا : يتساءل كثير من الشباب من الجنسين في حيرة …
بعد أن هدانا الله سبحانه إلى الإقبال عليه ، والالتزام بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ..
نجد أن الذين من حولنا _ أقرب الأقرباء _لا يشجعوننا على الالتزام ، بل يصبحون أعداء لنا ، يسخرون منا ، ويلمزوننا ، ويسلطون ألسنتهم علينا ..
فكيف العمل وسط هذه الأجواء الموبوءة التي لا تعين على الطاعة ؟
وهل نستطيع الاستمرار والثبات على الوجه الذي يريد الله ليرضى عنا ..
وتبسم صاحبي وتلألأ وجهه وهو يتمتم بأدعية كثيرة كأنما يستمطر أمداد السماء يسوقها الله إلى قلبه لتفيض على لسانه ..
ثم قال : أبقَ معي قليلا ... فكما قالوا بالمثال يتضح المقال ... أرأيت إلى بذرة صغيرة جدا صالحة للزراعة .
لكن السيل جرفها أمامه بقوة ، وجرف معها أطناناً من الحصى ، والأقذار ، والأخشاب الصغيرة ، ونحو هذا كثير ...
وأخذ يجرف هذه الأشياء إلى بعيد ، حتى استقرت أخيرا ، وتجمعت وتكومت . وانتهى السيل .. ثم جفت مياه بعد فترة ..وطلعت الشمس من جديد..
السؤال الآن : ما مصير تلك البذرة الصغيرة ، وقد استقرت في الأرض وحولها كل تلك الأقذار ..؟!
قلت في تلقائية : أحسبها ستنمو لوجود أشعة الشمس .. رغم كل تلك الأقذار حولها ..
فهتف صاحبي في فرح : رائع .. الله أكبر .. أحسنت .. ما شاء الله ..
ثم غمرني بفيض من ابتسامته المتلألئة وقال : إذن نلاحظ أن هذه البذرة لم تبالي بما حولها رغم أنها صغيرة جدا ..
ورغم أن ما حولها كثير جدا ، وربما متعفن جدا !!!!!
لكنها اهتزت ونمت وربت ومضت في طريقها تشق الأرض لتعلو في الفضاء ، غير مكترثة بأي شيء ، ولا بأي معوقات .. أليس كذلك ؟؟؟؟
وانتبهت لما يريده بهذا المثال فلم أملك إلا أن أقول : سبحان الله .. مثالك رائع .. رائع جدا ..
فتح الله عليك .. وحفظك ورعاك . ضحك صاحبي ، وأثنى على تنبهي لما يريد ..
ثم قال : ومع هذا سأسألك : ماذا نستفيد من هذا المثال ؟؟
قلت على الفور وفي حماس : ان البذرة الصالحة .. أينما وجدت ، لا تفسد .. بل تستمر في النمو رغم كل شيء من حولها ..؟؟
قال صاحبي : نعم .. إنها تستمر في النمو .. رغم كل شيء يحيط بها ..
طيب هل تعرف أن التربية الإسلامية قائمة على هذا المثال ..... كيف تصبح بذرة صالحة …..
ثم حيثما كنت فأنت قادر على النمو مهما كانت الأجواء من حولك .. !!
لم أملك إلا أن أقول في نشوة وإعجاب : سبحان الله .. أكررها وأمد بها صوتي .
قال : نعم .. والأمثلة كثيرة جدا جدا على هذه القضية ..
وأول مثال وأوضح مثال على الإطلاق ..هو محمد صلى الله عليه وسلم ( وهل مثل محمد أحد في العالمين ؟؟ )
عندما بعث كيف كانت الأجواء من حوله ؟؟؟؟ ليس هناك بصيص من ضوء … ولا بارقة من أمل …ولا يد مساعدة ، ولا صوت معين …..أليس كذلك ؟؟
هنا وجدت نفسي أقاطعه وأقول : صحيح .. كلامك .. ولكن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم .. قد ثبت الله قلبه على الإيمان .. ولا مجال له لأن يهتز أو يضعف ..
في هذا الحالة لا نستطيع مقارنة أنفسنا بالنبي صلى الله عليه وسلم .. أرجو أن لا يكون في كلامي أي خطأ.
ابتسم ابتسامة عريضة وقال : وإن كان على كلامك هذا ملاحظات عدة ...... لكن لن أتعرض لها هنا ..
حتى لا نخرج من موضوعنا ........لهذا سأسلم جدلا لك بما تقول.
وسأضرب لك عشرات الأمثلة من حياة أصحابه الكرام رضي الله عنهم ...
لا تقل لي هاهنا : وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نستطيع أن نكون مثلهم ..!!!!!!
قلت وأنا أبتسم : لا لن أقول هذا ؟؟ وإلا سأكون مكابرا ..
قال : أقول لك : هؤلاء بشر مثلنا .. لكن إيمانهم كان رائعا .. وقويا .. وراسخا ....
نأخذ مثلا شابا صغيرا ..... فتي جميل وسيم .. كان المال يجري في يديه ... كان منغمس في النعيم ....
كان يلبس أفخر أنواع الملابس ..... كان يتعطر بأطيب أنواع العطور ..كان .... وكان .. وكان ..
فلما آمن .......... تغيرت عليه الدنيا من حوله .... هاجت أمه وماجت ، وهددت وتوعدت ، وثارت وأزبدت ..
وكذلك فعل أهله جميعا به ،، وحرموه حتى من أبسط ألوان الحياة ...... بل سجنوه ..... ضربوه ..... علقوه من رجليه .....قيدوه
ولكن البذرة الصالحة عرفت كيف تصمد في وجه الأعاصير ، وتشق لها طريقا إلى السماء ..!
ذلك هو مصعب بن عمير - رضي الله عنه -.
يعني ........ لم تكن الأجواء التي حوله فقط لا تساعده على الاستقامة ...... كلا .... بل إنها تعذبه لأنه استقام .... وتحاول إرغامه على الانحراف ..
فهل يأس .... هل أصيب بالإحباط........ هل فكر أن يترك ما هو عليه مجاراة للجو حوله .. هل قال : لا أستطيع الاستمرار ..!!
حلاوة الإيمان التي كان يجدها كانت تجعله اكبر من هذا كله ..
تجعله يستعلي ويرفرف ولا يبالي بالعذاب ينصب عيه... ولا بألوان من السخرية تنهال عليه ..
تجعله شامخا شموخ الجبال الرواسي .. لا يتأثر بالرياح من حوله.
لم أملك إلا أن أعيد وأكرر : سبحان الله …سبحان الله ..
وواصل صاحبي حديثه الشجي : بالعكس تماماً ..... ما زاده هذا إلا صلابة ....... وثباتاً .... وقبول للتحدي ..
وكان يعلنها في وجوه الجميع أنه مؤمن بالله .. وأنه متجه إلى الله ... وأنه يحب محمدا صلى الله عليه وسلم.... وهكذا ثبت ثبات الجبال رغم هول العذاب الذي أنزلوه به ..
نظرة من محمد عليه السلام تساوي الدنيا بمجموعها ....... بل هي فوق ذلك ..ولقد قالها أحد الصحابة حين هدده أهله :
نظرة من محمد أحب إليّ من الدنيا وما فيها
وشقت البذرة طريقها نحو السماء تتحدى ...........في شموخ ....هذا مجرد مثال ....... والأمثلة كثيرة
فأنت تستطيع أن توطن نفسك على هذا المعنى ..
أنك بذرة .....وأنك قادر على الثبات ....بل على النمو أيضا ....بل على شيء آخر أكبر من هذا وأهم ..
نؤجل هذه النقطة ، ونواصل ما كنا فيه ..
الذي أعرفه أن مصعباً - وأمثاله ممن تعرضوا لمثل ما تعرض له ، وثبتوا كما ثبت - الذي أعرفه أن سبب مواقفهم الرائعة هذه أمران ..
انتبه الآن وركز معي جيدا :
الأول : أنهم رأوا ( قدوتهم ) وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم يثبت ثباتا عجيبا .. لا أمام أهله فحسب ، وجو عائلته فقط ..
بل رأوه يتحدى الدنيا كل الدنيا ، ولا يبالي بما يواجهه..
ولم يقولوا : هذا رسول ... هذا نبي .. وأين نحن منه .!!؟ كلا …… بل هو قدوة … وأسوة .. ومربي .. وعلينا أن نقتفي خطاه
ألم يقل الله عز وجل ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )؟
قلت في تلقائية : نعم والله
قال : إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا في كل شيء ... فلا ينبغي أن نسمح للشيطان أن يحتال علينا ويوسوس لنا بأن هذا رسووووووووووووووول وأين نحن منه ..... ونحو هذه الإيحاءات الشيطانية التي يريد الشيطان أن يخذلنا عن طريقها .. علينا أن نقتدي به ( على قدر طاقتنا ) إذن فهم رأوه ثابتا شامخا ...
فقرروا أن يتعلموا من هذا الدرس ( العملي ) واستفادوا جدا بهذا الدرس الرائع ..
وكلما فترت عزيمة أحدهم ذكر نفسه بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أعاصير الدنيا ... فثبت .. وصبر وصابر ورابط ..
ألا تلاحظ أنني أعدت الآن النقطة التي تركتها في بداية الحوار ........!!
الأمر الثاني الذي أعانهم :
هناك نصوص كثيرة في القرآن والسنة ...... تربي المسلم على هذا المعنى أن يثبت على الحق مهما كانت الأجواء من حوله لا تساعده ..
تذكرت الآن قضية ذكرها علماؤنا في هذه النقطة قالوا ( وهذا عجيب ...... بل هذا سيعطيك شحنة ثقة وعزيمة )
قالوا أن أعداد من الناس في مكة آمنوا لسبب غريب .. أتعرف ما هو ؟
وتسائلت : ما هو أفدني أفادك الله ونفع بك ؟
قال : أنهم كانوا يرون بلالا وأمثاله من الذي ينهال عليهم العذاب ليل نهار ، ومع هذا هم ثابتون لا يتزحزحون بل يجاهرون بإيمانهم
هذا الموقف دفع هؤلاء إلى التفكير الجدي في حقيقة ما يحمله هؤلاء المعذبون !!! فوصل بهم تفكيرهم أن هؤلاء لا يمكن أن يتحملوا كل هذا ...
إلا لأنهم على الحق فكان هذا سبب إيمان كثير منهم .. !!!!!!!!
ماذا نستخلص من هذه النقطة قبل أن نتجاوزها ؟؟
حين تثبت .. وتصر على موقفك ... ولا تبال بسخرية الساخرين .....
وتجاهر بالحق الذي معك ، وخلال ذلك تحسن فن التعامل مع الآخرين ......
فالمرجو والمتوقع أن بعضهم سيدفعه موقفك هذا إلى التفكير الجاد ..إلى ماذا ؟؟؟؟ قلت بسرعة وفي فرح : في أنني على الحق ........ صح ..
ابتسم وقال : صحيح بارك الله فيك .. ورفع قدرك .. وشيئا فشيئا ومع الأيام ستجد صدى ثباتك على شخص وربما أكثر ...
وهكذا تتسع الدائرة ، كنت واحدة ... فاصبح معك آخر ... وهكذا تنداح الدائرة وتتسع ...
المهم الثبات والإصرار على مواصلة الطريق ....... وعدم مجاراة القوم في فسادهم - على افتراض أن هناك صور من الفساد يقومون بها - ؛
لأن مجاراتهم في ذلك ستنسف عليك ما تحاول بناءه ..
أما بالنسبة للنصوص فهي كثيرة جدا ....
الله عز وجل قص على رسوله وعلى أصحابه وعلينا في القرآن الكريم قصص الأنبياء... وهي قصص كثيرة ، وكيف ثبتوا ، وكيف قاوموا .....
لماذا هذه القصص؟؟
طبعا لنتأسى بهم ….. يعني لنقتدي بهم ……. يعني لنتذكر مواقفهم الرائعة تلك .. فتعطينا شحنة للثبات
قلت في تلقائية : صدقت والله.
قال : انظر مثلا نوح عليه السلام ...... ألف سنة إلا تسعين عاما ( 950 ) سنة وهو يدعو قومه... ومع هذا لم يسلم معه خلال هذه السنين الطويلة كلها إلا أربعين إنسان .....
وفي رواية أقل من هذا العدد !!!! ومع ذلك لم ييأس ... لم يصب بإحباط ...لم يقل : وماذا أفعل ؟؟
لم يداخله شك أبدا في أنه هو على الحق وكل هؤلاء القوم من حوله على الباطل ...لم يكترث لسخريتهم منه .. ولا لاستهزائهم به ..
ما أروع هذا الدرس .... ومنه استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم .... وهكذا بقية الأنبياء عليهم السلام ..
استعرض الليلة قصة موسى - عليه السلام - مثلا ..... وماذا واجه ، وكيف واجه ، وكيف صبر .. الخ .. تر العجب العجاب
والآن ما خلاصة درس اليوم ..؟
قلت في فرح : ضرورة الثبات على الحق .. والإصرار على السير مادمت على حق .. ولا أهتم بما اسمعه من حولي من سخرية أو استهزاء أو نحو هذا
قال : بارك الله فيك وفي فهمك .. ويبقى عليك الآن العمل ...
أن تستعين بالله وتمضي في طريقك لا تبالي بشيء إلا بتحصيل مرضاة الله عليك
واعلم أني اليوم في هذا الدرس إنما أعطيتك خطوطا رئيسية ،وعلى ضوئها قس .. وستجد مئات الشواهد من القديم والحديث.
وهذا وبالله التوفيق ومنه العون ..
][][ o0o0o0o0o0 منقــــ للفائدة ــــول o0o0o0o0o ][][
][][ o0o0o0o0o0 وجزى الله الكاتب خير الجزاء o0o0o0o0o0o ][][