كافة مخلوقات الله تعالي هذه كلها هي مجرد آيات الله البينات والتي تشير بأصابعها العشرة إلي موجدها وخالقها:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة**الشورى29.
وصدق الشاعر إذ قال:
في كل شيء له آية تدل علي أنه واحد.
وقال تعالي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق**فصلت53.
فعندما ينظر الإنسان في الكون من حوله وفي نفسه ويتأملهما بقلب وعقل فلابد أن يعلم أن هذا كله حق من عند إله حق عظيم قادر علي كل شيء. فالمخلوقات كلها تشهد أن ربها وموجدها إله عظيم؛ يشهد بذلك عدد كل البشر الذين حضروا إلي تلك الأرض وأقاموا فيها حين من الدهر ثم ذهبوا عنها دون عوده، وقد استحالت دمائهم وعظامهم ولحومهم إلي تراب لا تميزه من بين بقيه تراب الأرض إلا بكونه تراب جديد فوق تراب قديم. عدد هؤلاء الترابيين يشهد أن خالق تلك الجثث والأرواح المحركة للجثث هو إله جد عظيم..
والآن السؤال الذي لابد أن يشغل عقل وبال كل مفكر مؤمن بوجود إله مصرف مدبر لهذا العالم:
لا يوجد بين مخلوقات الله تعالي من سيسأل ما هي علة هذا الخلق؟ ولماذا خلقنا الله تعالي وأوجدنا في هذا العالم؟ إلا الجن والإنس أما بقية الخلق فهم مفطورون علي العبادة لا يفعلون إلا ما أمرهم وفطرهم عليه ربهم وموجدهم سبحانه وتعالي. فكل خلق الله تعالي حاشا الثقلان متعبدون لله تعالي بغير شريعة إلهية بل متعبدون بأوامر إلهية ولهذا فإنك ستجده سبحانه وتعالي يقول في محكم آياته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون**الذاريات56.
فنص تعالي أنه لم يخلق الإنس والجن إلا لسبب واحد هو عبادة الله تعالي سبحانه وتعالي والإثبات في محل النفي كما يقول أهل اللغة يفيد التأكيد، فسبحانه ينفي عن نفسه أي سبب أو عله أو حكمة في خلق الإنسان والجان إلا العبادة بنص لا يمكن تجاوزه ولا يمكن تأويله وصرفه عن ظاهره بحال..
وقد اعترض بعض العلماء علي هذا كالإمام ابن حزم الأندلسي رضي الله عنه إذ قال: وقال بعض أصحابنا معني هذه الآية أنه تعالي خلقهم ليأمرهم بعبادته. ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالي قط بعبادته كالأطفال والمجانين، فصار تخصيصاً للآية بلا برهان، والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه (أي أنه خلق لا لعلة أو سبب أو حكمة ظاهرة) لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم.. والله تعالي لم يزل يعلم أن كثيراً منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم؟!
ونحن نجيب الإمام علي اعتراضه هذا وبالله التوفيق فنقول: أن الله تعالي قادر علي كل شيء وأن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، وهو سبحانه خالق كل شيء فإذا ما خلق المخلوقات للعبادة المأمور بها ولم يفعلوها لم يكن قد شاء أن تكون إذ لو شاء أن تكون لكونها لكن أمرهم بها وأحب أن يفعلوها ورضي أن يفعلوها وأراد أن يفعلوها إرادة شرعية تضمنها أمره بالعبادة من هنا يتبين معني الآية فإن قوله تعالي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون**الذاريات56. يشبه قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاع** النساء64. فهو لم يرسله إلا ليطاع ثم قد يطاع وقد يعصي.
كذلك ما خلقهم الله تعالي إلا للعبادة ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون ومثل هذا كثير في القرآن. وهو سبحانه لم يقل أنه فعل الأول ليفعل هو سبحانه الثاني ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة ويمتنع أن يفعل أمر ليفعل أمراً ثانياً ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، ليكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم وما يحبه ويرضاه لهم فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه ولكن لما لم يفعلوه استحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره التارك فعل ما خلق لأجله من عذاب الدنيا والآخرة وهو سبحانه وتعالي قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان كما قال تعالي: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون**الحجرات7. فهؤلاء أراد الله منهم العبادة خلقاً وأمراً أمرهم به وخلقاً جعلهم فاعلين له والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين وإن كان قد أمرهم بالعبادة.
كذلك اعتراض الإمام أن في الخلق من هو غير مأمور بالعبادة كالمجنون والطفل فخطأ، ويدخل ضمن هؤلاء أيضا النائم فهو أيضاً غير مأمور بالعبادة حال نومه، ولكن الحق والصواب أن هؤلاء كلهم مأمورين بالعبادة إلا أنه قد أصابهم طارئ فكان أمر التكليف موقوفاً مؤقتاً لزوال هذا العارض فلو بريء المجنون واحتلم الصبي واستيقظ النائم فإن القلم يجري عليه، أو كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاث: النائم حتي يستيقظ وعن المبتلي حتي يبرأ وعن الصبي حتي يكبر.
(رواه أبو داوود عن عائشة وصححه الألباني)
وفي رواية: رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب علي عقله حتي يفيق، وعن النائم حتي يستيقظ، وعن الصبي حتي يحتلم.
(رواه أبو داوود عن علي بن أبي طالب وصححه الألباني)
فثبت أن رفعه كان لطارئ ولم يرفع كلياً، وحتى إن رفع كلياً في فترة الحياة الدنيا فلسوف يقع علي الجميع طوعاً وكرهاً يوم القيامة فمن أبي أن يعبد الله تعالي طوعا في فترة الحياة الدنيا فلسوف يعبده كرهاً في النار وبالله التوفيق.
كذلك الطفل والمجنون وكل من سقط عنه التكليف لآفة أو لنقص يبرأه الله تعالي من هذا ويدخله في عباده طوعاً أو كرهاً. وأيضاً رفع التكليف لطارئ لا يعني خروج العبد من ربق العبودية لله تعالي فثبت قولنا والحمد لله رب العالمين.
كذلك ستجد أن الفعل المشترك بين جميع مخلوقات الله تعالي هو العبادة فسبحانه وتعالي لم يخلق خدماً سبحانه وتعالي بل لم يخلق إلا عبيداَ وعندما يخبرنا سبحانه أنه خلق الإنس والجن –وهما الخلق المكلف بشريعة- ذوا العقل والشهوة من أجل العبادة فغيرهما أولي بهذه العبادة فسبحانه خلق الإنس والجن لينضما إلي تلك المنظومة الكونية العابدة والعاملة، والمنظومة الكونية كلها تدين لله تعالي بالعبادة كما في قوله تعالي: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَه**الإسراء44. فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن يسبح بحمد ربه، والتسبيح عبادة، والسموات والأرض هما العمارة أو البناء الذي تسكن فيه كل مخلوقات الله تعالي تسبح وتعبد الله سبحانه وتعالي ومعني تسبح لله أي تنزه الله ربها وموجدها عن كل سوء ونقص وعيب وهي بهذا تشكره علي نعمة الوجود والإيجاد فتقر بصلاتها وبعبادتها لله تعالي بأنه ربها وخالقها ومسويها وبارئها وإلهها.
فكل المخلوقات تشارك بعضها البعض أمام ربها وموجدها الدين العظيم هذا الدين هو نعمة إيجادها، وهذا من أعظم النعم لأنها مبني كل النعم وأساسها فلو أنك لم تكن موجوداً لم تكن تفيدك حينئذ أي نعمة.
حتي الكافر بالله وإن لم يكن يسبح بلسانه فقد خضعت جوارحه لفاطرها وموجدها فهي تسبح وتعبد الله رغماً عنه، وفي هذا يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا. (خرجه السيوطي عن أبي سعيد وصححه الألباني)
والله سبحانه وتعالي ينص مؤكداً علي أن كل من في السماوات والأرض عبداً له سبحانه وتعالي فيقول: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا**مريم93. وقال: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون**النحل49. فثبت بهذا أن جميع مخلوقات الله تعالي تشترك في علة واحدة وهدف واحد وتسير في اتجاه واحد هو عبادة الله تعالي.
والله سبحانه وتعالي أراد أن يخلق من العباد من هم علي أصناف وأنواع وأشكال فيعبد في كل وقت وحين من كافة خلقه وبكافة أشكال وأصناف العبادة, وإلا فماذا يريد الله سبحانه وتعالي من خلقه إذا خلقهم؟ وأي منفعة قد تعود عليه أو مضرة من هذا الخلق الضعيف الذي خلقه الله تعالي بكلمة واحدة من كلماته فقال له كن فيكون، واسمع لقوله تعالي: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُم**الفرقان77. أي إنه تعالي لا يبالي ولا يعبأ بالناس لولا دعاؤهم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة.
فثبت أن علة الخلق وإيجاد الموجدات هو عبادة الله تعالي الواحد الأحد وبالله التوفيق.
والعبادة هي العلة الأولي والتي من أجلها أوجد الله سبحانه وتعالي مخلوقاته كلها، وهذه العلة ليست بمعلولة بل هي محض مشيئة الله وصرف إرادته سبحانه وتعالي والذي لو شاء ما أوجد تلك الموجودات ولا أخرج تلك المخلوقات، فوجودهم لن يزيد الله في شيء وعدمها لن ينقصه سبحانه شيء فهو الكامل بذاته والغني بذاته عن العالمين.
إذاً فقد جانب الإمام أبي محمد الصواب في مسألة علة الخلق فقد بان أن استدلاله علي أن الله تعالي لم يخلق لعلة ليس صحيحاً علي إطلاقه بقوله رحمه الله: ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالي أو أنهما غير مخلوقين أصلاً أو أنهما مخلوقان لغيره فمن جعلهما غير مخلوقين أصلاً كفر لأنه يجعل في العالم شيء لم يزل، ومن قال أنهما مخلوقان لغيره كفر لأنه يجعل خالقاً غير الله تعالي، فثبت أنهما مخلوقان له تعالي وقد قام البرهان علي أن كل ما دون الله تعالي فهو خلق له فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالي فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضاً أول لا لسبب ولا لغرض. فإن كان فعلهما لسبب آخر وغرض آخر لزم أيضاً فيهما مثل ذلك حتي ينتهي بقائله إلي إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها وهذا كفر من قائله؟ وإن كان تعالي فعلهما لا لسبب ولا لغرض حاشا ما نص تعالي عليه فقط أنه فعله لغرض أراده أو لسبب وأما ما لم ينص لك فيه فإنا نقطع علي أنه تعالي فعله كيفما شاء لا لغرض ولا لسبب. قلت: ونحن نجيب الإمام علي هذا الاعتراض أيضاَ وبالله التوفيق فنقول: أن السبب والغرض خلق من مخلوقات الله تعالي ككافة أفعال العباد خلق من خلق الله تعالي وأن الله خلق الخلق لعلة وهذه العلة هي العبادة كما سبق وبينا وقد نص الله تعالي علي ذلك حينما قال – وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون- وبقول الله تعالي نقول وهذه العلة –أي العبادة- ليست بمعلولة أي لا علة لها بل هي محض مشيئة وصرف إرادته سبحانه وتعالي وبهذا لا يعترض علي قولنا بالتسلسل والحمد لله رب العالمين. وحق علي العبد أن ينزه ربه عز وجل عن كل نقص وسوء فيوقن أن أفعال الله تعالي كلها وأمره كله ونهيه كله لابد وحتماً ولزاماً أن يكون حكيماً فيه ولابد أن تكون لحكمة فسبحانه وتعالي هو العليم الحكيم. وهذا عين ما قصده الإمام ابن حزم بقوله أن لا حكمة في الكثير من أفعال الله تعالي قياس علي أفعالنا نحن فقال: وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز وجل أي شيء فهو منه عز وجل عدل وحكمة، وإن كان بعض ذلك منا جوراً وسفهاً، وكل ما لم يفعله الله عز وجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم علي الباري تعالي بمثل ما يحكم به بعضنا علي بعض فضلال بين. قلت: فإذا ثبت أن لله تعالي حكمة في كل فعل من أفعاله ولكن إذا كان سؤال السائل ما الحكمة في خلق الله تعالي المخلوقات لعبادته فنقول له هذا ما نتفق فيه مع الإمام ابن حزم ونخالف فيه كل العلماء ولا يجوز لنا أن نخوض بالسؤال في أفعاله عز وجل فنقول لم خلق المخلوقات لعبادته؟ طالما أنه لم يخبرنا سبحانه وتعالي عن إجابة هذا السؤال فنقول: فيه حكمة خفيت علينا لا يجوز لنا السؤال عنها فسبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون**الأنبياء23. وهذا ما نخالف فيه الإمام الذي قال لا حكمة.
(من كتاب الإنسان؛ تأليف: إسماعيل مرسي أحمد)