كما أن للآخرة سادة وهم الأتقياء، فكذلك فإن للدنيا سادة هم الأسخياء، فالسخاء مطلوب محبوب في كل المجالات، سيما في بث العلم ونشره، وعلى العلماء والدعاة العاملين، وعلى الأيتام، والأرامل، والفقراء، والمساكين، وفي سبل الخير المختلفة، وطرقه متعددة النفع المتنوعة.
لقد أمر الله ورسوله بالإنفاق، ونهيا وحذرا من البخل والشح والإقتار، فقال عز من قائل: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه”.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً؛ ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً”.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، وفي رواية: (ما نقصت صدقة من مال). وجعل الشارع الحكيم الإنفاق في سبل الخير قليلاً كان أم كثيراً من الكسب الطيب سبباً من أسباب دخول الجنة، فقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، وقال: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلوه حتى تكون مثل الجبل).
ولم يصرح الشارع لأحد أن يغبط أحداً إلا في خصلتين، فقال: (لا حسد “أي لا غبطة” إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
سجية خسيسة
والبخل هو الإمساك عما يحسن السخاء فيه، وهو ضد الكرم، ودليل على قلة العقل وسوء التدبير، وهو أصل لنقائص كثيرة، ويدعو إلى خصال ذميمة، والبخل من الخلال الخسيسة، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه، وقد عابها الإسلام، وحذر منها تحذيرا رهيبا.
ولا يجتمع البخل مع الإيمان، بل من شأنه أن يهلك الإنسان ويدمر الأخلاق كما أنه دليل على سوء الظن بالله عز وجل، يُؤخر صاحبه، ويبعده عن صفات الأنبياء والصالحين... فالبخيل محروم في الدنيا مؤاخذ في الآخرة، وهو مكروه من الله عز وجل مبغوض من الناس، ومن هنا قال القائل: جود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده.
وقال آخر: البخل هو محو صفات الإنسانية وإثبات عادات الحيوانية...وقال بشر الحافي: (البخيل لا غيبة له).. ومُدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صوّامة قوّامة، إلاّ أن فيها بخلاً. قال: (فما خيرها إذًا).
إن البخل سجية خسيسة، وخلق لئيم باعث على المساوئ الجمة، والأخطار الجسيمة في دنيا الإنسان وأخراه لأنه داعية للمقت والازدراء، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موتَ البخيل أقربهم إليه، وأحبهم له، لحرمانه من نواله وطمعا في تراثه.
والبخيل بعد هذا أشد الناس عناء وشقاء، يكدح في جمع المال، ولا يستمتع به، وسرعان ما يخلفه للوارث، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
صور كريهة
والبخل وإن كان ذميما مقيتا بيد أنه يتفاوت ذمه، وتتفاقم مساوئه، باختلاف صوره وأبعاده..فأقبح صوره وأشدها إثما، هو البخل بالفرائض المالية، التي أوجبها الله تعالى على المسلمين، تنظيما لحياتهم الاقتصادية، وإنعاشا لمعوزيهم.
وهكذا تختلف معائب البخل باختلاف الأشخاص والحالات: فبخل الأغنياء أقبح من بخل الفقراء والشح على العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو الأضياف أبشع وأذم منه على غيرهم، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من طعام وملابس، أسوأ منه في مجالات الترف والبذخ أعاذنا الله من جميع صوره ومثالبه.
وقد تتسع دائرة البخل حتى تشمل امتناع المرء عن أداء ما أوجب الله تعالى عليه فترى البعض يبخل بنفسه وماله ووقته، وقد يمتنع عن تأدية حقوق الله أو النفس أو الخلق.
قال الجاحظ: “البخل خُلقٌ مكروه من جميع الناس إلاّ أنه من النساء أقل كراهية، بل قد يستحب من النساء البخل (بمال أزواجهن إلاّ أن يؤذن بالجود) فأما سائر الناس فإن البخل يشينهم وخاصة الملوك والعظماء، فإن البخل أبغض منهم أكثر مما هو أبغض من الرعية والعوام ويقدح في ملكهم؛ لأنه يقطع الأطماع منهم، ويبغضهم إلى رعيتهم”.
والشح أشد في الذم من البخل ويجتمع فيه البخل مع الحرص، وقد يبخل الإنسان بأشياء نفسه، وأشد منه دعوة الآخرين للبخل، قال تعالى: “الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناسَ بِالْبُخْلِ” (النساء: 37).
وقد يصل البخل بصاحبه إلى أن يبخل على نفسه، بحيث يمرض فلا يتداوى، وفي المقابل فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.
قال تعالى: “وَلا يَحْسَبَن الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَر لَهُمْ سَيُطَوقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” (آل عمران: 180). وقال: “الذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ الناسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مهِينًا” (النساء: 37).
وفي معرض ذم المنافقين قال سبحانه: “وَمِنْهُم منْ عَاهَدَ اللهَ لئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصدقن وَلَنكونَن مِنَ الصالِحِينَ * فَلَما آتَاهم من فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلّوا وّهُم معْرِضونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَه بما أَخْلَفوا اللهَ مَا وَعدُوهُ وبِما كانوا يَكْذِبُونَ” (التوبة: 75 - 77).
وبيّن جل وعلا أن عائد البخل إنما هو على النفس، فقال: “هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِي وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُم لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ” (محمد: 38).
وقال سبحانه: “الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَل فَإِن اللهَ هُوَ الْغَنِي الْحَمِيدُ” (الحديد: 24).
وفي بيان مغبة البخل قال سبحانه: “وَأَما مَن بَخِلَ واسْتَغْنَى. وَكذبَ بالحُسْنَى. فَسَنُيَسرُهُ للعُسْرى” (الليل: 8 -10).
أبخل الناس
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذُ بك من الهَم والحَزَنِ، والعَجْزِ والكسَل، والبُخْلِ والجبنِ، وضلع الدّين، وغَلَبَة الرجَالِ...) (رواه البخاري ومسلم).
وورد عن الطبراني: (إنّ أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسّلامِ)... وعن يَعْلى بن مُنَبهٍ الثقفيّ رضي الله عنه قال: جَاء الحسنُ والحسين يستبِقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمّهما إليه ثم قال: (إن الولد مَبْخلَةٌ مجبَنَةٌ محزَنَةٌ) “رواه ابن ماجه والحاكم”.
وعن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البخيل من ذُكِرْتُ عنده ثمّ لم يُصَل علي) “رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح”.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: خَرَجتُ ذات يوم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أُخْبرُكُم بأبْخل النّاس؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (مَنْ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَل عَلَي، فذاك أبخل الناس).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلُمات يومَ القيامة، وإيّاكم والفُحش، فإن الله لا يُحبّ الفحش ولا التّفحّش، وإياكم والشحّ، فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبَخِلوا، وأمرهم بالفجور ففجَرُو) رواه أحمد وأبو داود.
وعن سعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يأمر بهؤلاء الخمس ويُحدثهن عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر) “رواه البخاري”.
عقاب شديد
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل له مال لا يؤدي حقّ ماله إلاّ جعل له طوقًا في عُنُقه شجاع أقرع وهو يفر منه وهو يتبَعُهُ) ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل: “وَلا يَحْسَبَن الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لهُم بَلْ هُوَ شَر لهُمْ سَيُطَوقُونَ ما بخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ” (آل عمران: 180) رواه ابن ماجه والنسائي وصححه الألباني.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلاّ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي ابن آدم النّذْرُ بشيءٍ لم يكن قُدّرَ له، ولكن يُلْقِيهِ النذرُ إلى القَدَرِ قد قُدرَ له، فيستخرج اللهُ من البخيل فيؤتى عليه ما لم يكن يُؤْتى عليه من قبل) “رواه البخاري ومسلم”.
وعن عبد الله بن الشّخير رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: “أَلْهَاكُمُ التكاثُرُ” قال: “يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك يا ابنَ آدم من مالكَ إلاّ ما أَكَلْتَ فأَفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أو تصدقْتَ فأمْضَيْتَ؟) “رواه مسلم”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ مُنجيات: خشية الله تعالى في السّر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاث مُهْلِكاتٌ: هَوَىً مُتبع، وشُحٌ مُطاع، وإعْجابُ المرء بنفسه) رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شَر ما في الرجل: شُح هالعٌ، وجُبْنٌ خالع) “رواه أحمد وابن حبان وصحح أحمد شاكر إسناده”.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليّ جُناحٌ أن آخذ من ماله سِرا؟ قال: (خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف) “رواه البخاري ومسلم”.