أما بعد:
فما من أحد -اليوم- هو أحق بالموعظة من أناس قعدوا من العالمين مقعد الوعظ والتذكير؛ إذ لم ينالوا حظا من سمت الصالحين غير زيي يتشحون به..وبقايا من عباءات يتقون بها نظر الغابطين.. وشيء من "كلام النبوة" يتوسلون به مكانا عليا.. ويتصدرون به مجلسا نديا.. ويستشرفون به ما هو أحسن أثاثا ورئيا..؛ بينما يفضحهم لحن القول الذي لم يكن ليغادرهم لا في صغيرة ولا في كبيرة إلا أحصاها عليهم الكرام الكاتبون. تراهم خشعا إذا ما شئت في "السياسة" يتحدثون.. وفي التنمية والأنثربولجيا لا تفتأ تبصرهم يبدون ويعيدون.. أما في "الاقتصاد" فتلك لعبتهم ونعما هي من حرفة بها يتكسبون.. وبقوائم النقية والمختلظة يتقاذفون.. وإن أنت رغبت أحوال "الآخرة" فليست العقبى هاهنا إلا من خلال ما يقولون إذ هم في التصنيف لا يرعوون.. وفي شأن "الرؤى والمنامات" فتقسم أغلظ الأيمان غير حانث بأن ابن سيرين بين ظهرانينا حي وما مات.. وكذا "الرقية" إن ابتغيت عافية فحاشاك أن تبرح حلو أرياقهم وندي تفالهم وما به ينفثون.. زهدوا -لعمر الله - في المساجد وما عادوا لها يعمرون.. وفي الفضاء كان لهم به البلغة وما يطمحون ألا ساء ما يحلقون.. وعلى موائد كل موسر يتوافدون.. وفي نعيم القصور فارهين.
تلك عشبة غار تنبت بالدهن من التملق والتزيين؛ بينما تسقى بماء من غسلين؛ كأن طلعها رؤوس الشياطين. يا ويحها إذ لم تنبت كإهاب سفيان وابن حنبل وابن أدهم وابن المبارك وبشر والعز وثلة من السابقين.
مات الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
قال تعالى: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار" يقول القرطبي: والآية توبيخ للعلماء..
في حين يؤكد محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ -في الدرر السنية- على أنهم أهل لكل توبيخ فأنى يصلح الناس وهم فاسدون... إلى أن يقول: وأما في زماننا هذا فقد قيد الطمع ألسنتهم فسكتوا إذ لم تساعد أقوالهم أفعالهم"فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم"... وفي آخر ما قال -رحمه الله تعالى- يتوكد لديه أن أسباب هذا الفساد بالضرورة عائد إلى: "ما استولى عليهم من حب المال.. والجاه.. وانتشار الصيت.. ونفاذ الكلمة.. ومداهنة المخلوقين.. وفساد النيات والأقوال والأفعال".. يقول ابن سيف: وايم الله هذا في زمن ابن عبد اللطيف وقد مضت عليه سنون عددا؛ فكيف إذن هي حالة أزماننا هذه والله المستعان.
وابن القيم وقد آذاه ما كان عليه أولئك الفئام من أحوال فكتب متألما: "... وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم؛قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل "-إعلام الموقعين-
وليعلم الذين اتخذوا من (الدين) وعلمه لهم حرفة يتقوتون بها.. أنهم بفعالهم تلك إنما يقعون في المخالفة البائنة لما كان عليه الأنبياء قاطبة-عليهم السلام-
قال سبحانه-على لسان نوح عليه السلام-:" ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله"
وقال سبحانه-على لسان هود عليه السلام-:" يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون"
وقال سبحانه-علىلسان صالح عليه السلام-:" وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين"
وكذلك قال على لسان "لوط عليه السلام" وعلى لسان "شعيب عليه السلام" وكذا هم جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم لا يرجون على دعوتهم إلا الأجر من لدن الله تعالى أكرم الأكرمين جل في علاه وتقدست أسماؤه.
يقول الله تعالى :"أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " وفي تفسير ابن كثير :"قال الحسن:خرجا : أجرا وقال قتادة : جعلا؛أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه كما قال تعالى :" قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله" وقال سبحانه :" قل ما ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين"
ولو لم يكن في سياق موعظتنا هذه سوى هذا الحديث لكفى ؛فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله-عز وجل- لا يتعلمه إلا لصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامه-يعني ريحها-) أخرجه ابن حبان وأبو داوود وابن ماجه وأحمد... وهو حديث صحيح.
ولقد سئل عبد الله بن المبارك عن سفلة الناس؟! فقال : (الذي يأكل بدينه)-البيهقي في شعب الإيمان-
كم كنت مسددا –يا ابن المبارك- إذ جعلت دين هؤلاء مكان أفواههم وما أحسبك قلت في نعتهم إلا حقا وما من شيء يضاهي جريرة فعلتهم النكراء إلا ما كان من نعتك وإن بدا خشنا بادي الأمر.
وقال سفيان الثوري ( إن أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة )-حلية الأولياء لأبي نعيم-
ومهما أوتي أحدنا من عظيم القدرة على التوصيف لمن كانت حالة مسالكهم كتلك ؛فلن نبلغ كفاءة ما أوتيه "صالح بن مهران" وهو يقول فيمن كان شأنهم التقوت بالدين اتجارا وابتغاء ما عند الناس والدار الفانية.. حيث قال رحمه الله: ( وضعوا مفاتيح الدنيا على الدنيا فلم تنفتح؛ فوضعوا عليها مفاتيح الآخرة فانفتحت)-طبقات المحدثين لأبي الشيخ الأصبهاني-
قال خالد بن صالح : يا أبا سفيان-أعني به صالح بن مهران- لقد فزت فوزا عظيما إذلم تدرك الخلوف في زماننا هذا؛ وإلا لرأيت بأم عينك غاية العجب وأبصرت بهما كيف تكسر أقفال الدنيا بمفاتيح الآخرة دون حياء من الخلق أو وجل من الخالق
وليرحم الله تعالى مطرفا بن عبد الله فهو من قال : ( إن أقبح ما طلبت به الدنيا عمل الآخرة )
وما أجمل ماقاله مصعب بن عبد الله الزبيري في شأن احمد بن حنبل:".. ومن في روع أحمد؟ يرتفع على جوائز السلطان حتى يظن أنه الكبر ويكري نفسه الجمالين حتى يظن أنه الذل .............ولم يقض لنفسه ما قضيناه من شهوات " وقال أحمد عن نفسه :" أريد أن أكون في بعض تلك الشعاب حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة؛ إني لأتمنى الموت صباح مساء"-السير للذهبي-
أين أنت يا أحمد ممن يمتون لك بسبب المنهج أو المذهب بصلة وقد سلكوا أودية غير التي كنت تسلك بحثا عما كنت عنه تهرب.اي والله شتان مابين مشرق ومغرب
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
كتبها / خالد صالح السيف