مس الجان .. والوسواس القهري..
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعدُ :
فإنَّ غالب علوم الطب النفسي المعاصر مبنية على نتائج أناس لا يؤمنون بتأثير الأرواح الشيطانية في أجساد البشر وعقولهم ، ولا يسلمون بشيء من ذلك : ولذا نراهم لا يُدرجون في الأسباب المؤثرة في وجود الوسواس القهري عمل الجان والشياطين .
والصواب : نقول باطمئنان واعتقاد جازم دلَّ عليه دليل الشرع، وحاكم الوجود : أنَّ من المسببات للوسواس القهري : تسلط الأرواح الشيطانية سواء كانت قريناً لازماً للإنسان ، أو بسبب سحرٍ ، أو أسباب المسِّ المعروفة .
و لا ينقض ما تقدم ذكره : أنَّ هناك دراسات تثبت أنَّ الوسواس القهري بسبب وجود تغير في أنسجة المخ، واضطراب في مستوى بعض النواقل العصبية ، خاصة مادة السيروتونين عنـد بعض المصابين بمرض الوسواس القهري،والذي يتبدل عند التداوي بالعلاج المناسب(1).
والجواب على هذا المعترض ، يقال :
لا يوجد تناقض بين تحسن المريض ببعض أنواع العقاقير الطبية -وهذا لا بأس به -وكون الشياطين لهم دور في إيجاد الوسواس القهري، وذلك أنَّ من العلل المرضية تكون من الجان(2)وتعالج بالرقية الشرعية،والأسباب الدوائية المادية، ومن الأدلة على ذلك :
- مرض أيوب عليه السلام حين سُلِّط عليه الشيطان ،وكان علاجه بالاغتسال من الماء الطيب والشرب منه .
- الطاعون وخز أعدائنا من الجن كما ثبت في الحديث الصحيح،وعلاجه حاصل بالرقية الشرعية،والأسباب الدوائية المعروفة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في مجموع الفتاوى(19/32) : (وليس لمن أنكر ذلك-يعني الجن- حجة يعتمد عليها تدل على النفي، وإنما معه عدم العلم؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك ،كالطبيب الذي ينظر في البدن
من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من غير طِبِّه أن للنفس تأثيراً عظيماً في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) وفى الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن ) .
ويقول الدكتور عبد الغفار سليمان البنداري : ( إنَّ السحر يؤدي إلى فقد الوظائف الطبيعية لأعضاء البدن واضطراب وظائف العقول وتوارد الأوهام إلى مراكز التحكم الذهني ، فيؤدي هذا بدوره إلى اضطراب ميزان تحجيم الأمور ودقة تقديرها ،فيرى المسحور أنه يفعل الشيء وما فعله ، ويسمع أصواتاً ليس لها وجود، ويرى صوراً لا يراها الناس، ويعتقد معتقدات مستحيلة ، فيرى الرجل المسحور أن زوجته ليست حلاً له مثلاً، أو يرى أنه يأتيها وما هو كذلك .. وترى المرأة المسحورة مثلاً أن زوجها ليس حلاً لها، أو أنه يريد الإضرار بها، أو تتصور أنه يريد قتلها أو الإيقاع بها،أو ترى أنه تزوج بغيرها، وليس كذلك ، وتؤسس تعاملاتها المضطربة معه على ذلك، أو ترى الشيء يتحرك وهو ساكن أو يسكن وهـو يتحرك ، وبذا يكـون داعـي للتفرقة بين الأزواج
وغيرهم ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) .
وعامة يحدث هذا التطور فجأة دون تدرج في تغير العلاقات - وفي تصوري أنه يجب على الطب النفسي الحديث الاهتمام بدراسة مؤثرات هذه العوامل والإيمان بها ،وإنشاء أقسام في الجامعات وغيرها لتصل بدورها إلى العنصر المحير والحلقة المفقودة في تاريخ الطب النفسي ، وعناصر علاجه من خلال الرؤية الإسلامية الدقيقة لهذا الجزء من العلاج النفسي الذي لم يصل الطب الحديث فيه إلى علاج حتى الآن، ولم يقف على أولياته.
إنَّ علماء النفس وأطباءه في هذا الزمان قد ذهبوا يفسرون هذه الظواهر النفسية بتفسيرات يبتعدون بها عن أصل حقيقتها فذهبوا يطلقون مسميات على الآفات النفسية الناتجة عن أصل السحر والمسِّ وغيره بمسمى "الفصام العقلي" ، أو الوسواس القهري أو غير ذلك .
ليس إنني أنادي بتقنين العلوم الإسلامية في مجال الطب،أو ما يسميه أطباء أوربا(بالعلوم الروحية) وإنشاء تخصصات تقوم بدراستها من خلال تعليمات القران،ودراسات السنة الصحيحة ليقوم عليها صرح شامخ في طب النفس القرآني - وسوف يعلمون ساعتها كم اقتربوا من معرفة الحقيقة التي أعجز العالم الوصل إليها في علاجات الطب النفسي .
إنَّ هناك علماء قد أثرتهم النظرة المادية البحتة وتفسير الأمور تفسيراً مادياً وعلمانياً ..
أقول: هناك علماء إسلاميون وضعوا أساس العلاج والطب النفسي لتلك الأمراض الناجمة عن السحر والمس واللمس : سيذكر لهم الطب الحديث حينما ينشأ في جامعاته أقساماً للعلاج ال****** القرآني .. وحينما يضطر إلى الإيمان بهذه الحقائق والتي لا يؤمن بها إلا حينما يجدها تشق طريقها إلى الحقيقة شقاً ، وأذكر على رأس هؤلاء العلماء معلم البشرية وحكيمها وطبيبها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. ثم من أمثال هؤلاء العلماء:"ابن تيمية وابن القيم"برعوا في فن علاج الطب النفسي ومن سار على دربهم .
إنَّ كليات الطب كانت أجدر أن تبادر بإنشاء قسم العلاج بالقرآن وترصد له دراساته وتطـوره من خلال المشاهدات والممارسات والتجارب جنباً إلى جنب مع دراسة الطب النفسي الذي توصلت إليه أحدث الأبحاث في أي مكان ..
لقد أفلح العلمانيون أن يؤثروا في البعض من الأطباء والخطباء ، فساروا على دربهم، ونهجوا نهجهم فما ازداد الجمع إلا ابتعاداً عن جادة الطريق، وجهلاً بمسلامات الأمور، ولا يعني هذا أنني أدعـوا
إلى إهدار علم النفس الحديث، بل على العكس أدعوا إلى مزيد من البحث فيه والتجديد ، من خلال نظرة قرآنية إيمانية تربط العبد بخالقه، والنفس بواجدها والروح ببارئها )(3).
وبما تقدم ذكره نقول : ومن أسباب الوسواس القهري ما يكون بسبب تَسلّط الجان والشياطين، وعِلْمُ ذلك يسهل دراية علاج هذا النوع من الأمراض؛إذ المقصود إفادة المريض ورفع البلاء عنه قَدْر الإمكان ..
والله المستعان ’’
بقلم / أبي عبد الرحمن اليوسف
الاثنين/29/3 /سنة 1428
(من كتابي : الوسوسة .. أسبابها .. وعلاجها .. )
__________
1- العلاج النفسي،د.طارق الحبيب(393-394).
2- ذكرت في كتابي(إرشاد الأنام) جملة متكاثرة من الأدلة الشرعية،والواقعية على قدرة الجان في إيجاد كثير من الأمراض العضوية،فراجعه أيها القارئ إن أحببت .
3-الطب النبوي،للإمام البخاري(ص73-75) .