قلب الساحر الإنسان حمارا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بـــــــــــــــــــــــعد :
فإنَّ بعض المتقدمين ، وثلة من المتأخرين يذكرون في مصنفاتهم : أن بعض السحرة قادرون على قلب حقائق الموجودات من الذوات والأعيان إلى صور أخرى ، ومن ذلك قلب الإنسان إلى حمار .. وغير ذلك من التصرفات في الهيئات ، والمحسوسات ..
وكل ذلك باطل يرده دليل الشرع بعدم وروده وإمكانه . وكذلك يرده حاكم العقل الصريح ، وواقع الوجود ..
• فأما دليل الشرع فكما قدمنا : عدم الورود والإمكان ؛ بل الشرع جاء مخبراً : أنَّ ذلك لا يكون إلا تخييلاً للعين الباصرة لا غير .
ومن الوارد في الشرع : قوله تعالى : (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) .
• وأما حاكم العقل : فضرورته تحيل حدوث مثل تلك لأفعال من السحرة ؛ إذ لو استطاعوا على قلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات = لفسد نظام الحياة ، ولجاز أن يكون جميع ما نشاهده من المحسوسات مما سحرته السحرة ، فقلبت حقائقه على غير أصله .
ولو أن الساحر قادرٌ على النفع والضر ، وعلم الغيب ، وقلب الأشياء على غير حقائقها ، وإنشاء المعدومات عل وجه الاختراع = لقدر على إزالة البلدان والمالك ، واستخراج الكنوز ، وتحويل الحجارة إلى ذهب ،والغلبة والسيطرة على الملوك والأمراء ، وغيرهم من أصاحب الثراء والنفوذ في الدنيا ، ولأصبح الساحر من أسعد الناس حظاً وغناً في هذه الدنيا .. وكل ذلك لا وجود له في الواقع .. بل السحرة من أسوأ الناس حالاً ، ومن أتعسهم نفساً ،وأحقرهم في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها .
* وأما واقع الوجود : فهل رأيتم يا معاشر العقلاء حماراً أصله أنسانا؟! ، أو ساحراً يجعل إنساناً بهيمة أو حماراً ؟! كل ذلك لا وجود له .. إلا في حكايات العوام مما هو حديث خرافة لا أصل له .
وإليكم جملة من أقوال المحققين من أهل العلم في رفض هذ الخرافة الكبيرة ..
جاء في الفصل في الملل والأهواء والنحل ،لابن حزم الظاهري(5/2) قوله (.. وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عيناً، ولا يحيل طبيعة إلا الله عز و جل ) .
وعند الراغب في مفرداته (464)و الفيروزآبادي في بصائر ذوي التمييز(1880) ( والثالث- من معاني السحر- : ما يذهب إليه الأغتام(1)وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع، فيجعل الإنسان حمارا، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين ) .
وفي الحاوي الكبير ، للماوردي(13/210) قال : ( ..فقد ذهب قوم ممن ضعفت في العلم مخابرهم ، وقلت فيه معرفتهم إلى أن الساحر قد يقلب بسحره الأعيان ، ويحدث به الأجسام ، ويجعل الإنسان حمارا بحسب ما هو عليه من قوة السحر وضعفه ، وهذا واضح الاستحالة من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لو ثبت على هذا لصار خالقا وهو مخلوق ، ورازقا وهو مرزوق ، وربا وهو مربوب ، وشارك الله تعالى في قدرته وعارضه في حكمته .
والثاني : أنه لو قدر على هذا في غيره لقدر عليه في نفسه ، فيردها إلى الشباب بعد الهرم ، وإلى الوجود بعد العدم ، ويدفع الموت عن نفسه ، فصار من المخلدين وباين جميع المخلوقين .
والثالث : أنه يؤدي إلى إبطال جميع الحقائق ، وأن لا يقع فرق بين الحق والباطل ، ولجاز أن تكون جميع الأجسام مما قلبت السحرة أعيانها ، فيكون الحمار إنسانا والإنسان حمارا ) .
وفي مغني المحتاج ،وتحفة المحتاج ،ونهاية المحتاج- من كتب الشافعية شرحا لكتاب المنهاج للنووي – قالوا : ( وذهب قول أن الساحر قد يقلب بسحره الأعيان ويجعل الإنسان حمارا بحسب قوة السحر وهذا واضح البطلان ؛ لأنه لو قدر على هذا لقدر أن يرد نفسه إلى الشباب بعد الهرم، وأن يمنع به نفسه من الموت ) .
ويقول العلامة الأصولي المفسر الشنقيطي في تفسيره ( 1/116) : (وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك- يقصد قلب الساحر لحقائق الأشياء- بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع. لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى. وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم ) .
وتأمل هذا النص المحقَق من العالم لمحقق الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان في شرحه لكتاب التوحيد (73) قال : ( ثم السحر الذي له حقيقة ليس معناه كما يقول بعض الناس: إنه قد يغير الأعيان ويقلبها من عين إلى عين أخرى، هذا لا يمكن؛ لأنه لو كان هذا لكان السحرة ملوك الدنيا، وأغنياء الخلق، ولم يقف في وجههم شيء، ولو وقف في وجههم أحد جعلوه حجرا أو حمارا ولكنهم في الواقع أفقر الناس، وأخس الناس وأذلهم، يتخفون بأمرهم، ولا يظهرونه خوفا، وتجدهم أفقر الخلق، إذا: لا يستطيع أحدهم أن يجعل الحجر ذهبا، فيقلب الأعيان، ولا يستطيع أن يجعل الإنسان حمارا، هذا لا يمكن، ولكنهم يعملون أعمالهم التي تكون بواسطة الشياطين فيحصل المرض والضر، ويحصل الفساد بواسطة ما يحدث ) .
وفيما ذكر كفاية لمن أراد الصواب والهداية .. والله الموفق لكل خير .