قال الله تعالى : ** أوَمَنْ كانَ مَيْتًا فأحْيَيْناهُ
وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشي به في النّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْكافِرينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ
جَعَلْنا في كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا
فيها وما يَمْكُرُونَ إلّا بأنْفُسِهِمْ وما يَشْعُرُونَ
* وإذا جآءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ حَتّى
نُؤْتَى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ
اللهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ
الّذِينَ أجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وعَذابٌ شَدِيدٌ
بِما كانُوا يَمْكُرُونَ **
سورة الأنعام 122 - 124
_ قال العلاّمة عبد الرّحمٰن السّعدي رحمه الله
في تفسير كلام المنّان :
يقول تعالى : ** أوَمَنْ كَانَ **
من قبل هداية الله له
** مَيْتًا ** في ظلمات الكفر،
والجهل، والمعاصي،
** فأحْيَيْناهُ **
بنور العلم
والإيمان
والطاعة،
فصار يمشي بين الناس في النور،
مُتَبَصِرًا في أموره، مُهْتَدِياً لِسَبيلِه،
عارِفا للخير مُؤثِراً له،
مجتهدا في تنفيذه
في نفسه وغيره،
عارفا بالشر مُبْغِضاً له،
مجتهدا في تركه وإزالته
عن نفسه وعن غيره .
أفَيَسْتَوي هذا بمَن هو في الظُلمات،
ظلمات الجهل
والغي،
والكفر
والمعاصي.
** لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها **
قد الْتَبَسَتْ عليه الطرق،
وأظلمت عليه المسالك، فَحَضَرَه
الهم
والغم
والحزن
والشقاء .
فَنَبَهَ تعالى العُقولَ بما تُدركُه وتَعرفه،
أنه لا يستوي هذا ولا هذا
كما لا يستوي الليل والنهار،
والضياء والظلمة،
والأحياء والأموات .
فكأنه قيل : فكيف يُؤثر من له أدنى مسكة من عقل، أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيرا: فأجاب بأنه
** زُيِّنَ لِلْكافِرينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ **
فلم يَزَلِ الشيطانُ يُحَسِن لهم أعمالَهم،
ويزينها في قلوبهم،
حتى استحسنوها ورأوها حقا .
وصار ذلك عقيدة في قلوبهم،
وصفة راسخة ملازمة لهم،
فلذلك رضوا بما هم عليه
من الشر والقبائح .
وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون،
وفي باطلهم يترددون، غير متساوين .
فمنهم :
القادة،
والرؤساء،
والمتْبُوعُون،
ومنهم :
التابِعون المَرْءُوسُون،
والأولون، منهم الذين فازوا
بأشقى الأحوال،
ولهذا قال : ** وكَذَلِكَ جَعَلْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكابِرَ مُجْرِمِيها ** أي : الرؤساء الذين قد كَبُرَ جُرمهُم، واشتد طغيانهم
** لِيَمْكُرُوا فيها ** بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم،
بالقول
والفعل،
وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم،
لأنهم يمكرون،
ويمكر الله
والله خير الماكرين .
وكذلك يجعل الله كِبار أئِمَة الهُدى
وأفاضِلهم،
يُناضلون هؤلاء المجرمين،
ويَردون عليهم أقوالهم
ويجاهدونهم في سبيل الله،
ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويُعينهم الله ويُسدد رَأيَهم،
ويثبت أقدامهم،
ويُداول الأيامَ بينهم وبين أعدائهم،
حتى يَدول الأمرُ في عاقبته
بنصرهم وظهورهم،
والعاقبة للمتقين .
وإنما ثَبَتَ أكابرُ المجرمين على باطلهم،
وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل،
حسداً منهم وبغياً،
فقالوا : ** لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتَى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ** من النبوة والرسالة .
وفي هذا اعتراضٌ منهم على اللهِ،
وعُجْبٌ بأنفسهم، وتكبر على الحق
الذي أنزله على أيدي رسله،
وتحجر على فضل الله وإحسانه.
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد،
وأخبر أنهم لا يصلحون للخير،
ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا
من عباد الله الصالحين،
فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين،
فقال : ** اللهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ **
فيمن عِلْمُه يصلح لها،
ويقوم بأعبائها،
وهو متصف بكل خلق جميل،
ومتبرئ من كل خلق دنيء،
أعطاه اللهُ ما تَقْتَضيه حِكمتُه أصلا وتَبَعاً،
ومن لم يكن كذلك،
لم يضع أفضل مواهبه،
عند من لا يستأهله،
ولا يَزْكو عنده .
وفي هذه الآية، دليل على كمال حكمة الله تعالى، لأنه،
وإن كان تعالى رحيما واسع الجود،
كثير الإحسان،
فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله،
ثم توعد المجرمين فقال : ** سَيُصِيبُ الّذينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ **
أي : إهانةٌ وذلٌ،
كما تكبروا على الحق، أذلهم الله .
** وعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ **
أي : بسبب مكرهم،
لا ظُلْماً مِنهُ تعالى .