الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ :
فإنَّ المبتلى بمسِّ الجنِّ : قد تحدث منه أفعال وتصرفات ينظر إليها الآخرون أنها غريبة لمخالفتها لمطالب الشرع ، والأخلاق الفاضلة،وحاكم العقل ..
وهذه التصرفات في ظاهرها :تؤدي إلى إثارة الانتباه عند الإنسان السليم مما يجعله ينظر إلى المبتلى أنه إنسان غريب الأطوار ،وأنه مشاكس مثير للمشاكل ،ومع مرور الزمن ،وتنوع الأفعال الشيطانية ،يؤدي ذلك إلى أمور يتحقق فيها
ما أراده الجان ، ومن ذلك :
1- الفراق بين المرء وزوجه .
2- ترك المبتلى وظيفته وعمله .
3- الفشل في الدراسة .
4- الضياع والتفكك بين أفراد الأسرة .
5- عدم التوفيق في كثيرٍ من أمور التجارة .
6- عدم الرغبة في الزواج ،وقد يحدث وفاق ثم يكون الخلاف،أو عدم التمام والتوفيق .
وغير ذلك من مكائد الشيطان وصناعته ،وهذه الأشياء وجودها وعدمها كلُّ ذلك بأمر الله تعالى كما قال سبحانه: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)سورة البقرة،الآية: 102 .
ولمَّا كانت هذه التصرفات والأفعال دون إرادة المبتلى بمسِّ الجن : كان الواجب على المعالِج،وأهل المريض-عموماً-أن يتعاملوا مع هذه التغيرات بحكمة وعقل وتؤدة .
ومن الحكمة والفطنة:-أنهم لمَّا علموا أنَّ صاحبهم مبتلى بمسِّ من الجنِّ بسبب سحرٍ ، أو عشق ، أو عين .. - وجب عليهم الصبر والتنبه لمكر الشياطين ،وما يفعلونه من أمور مقصودهم بها تحقيق ما يريدونه من تدميرٍ لذلك الإنسان،أو تحقيق ما أراده الساحر،أو طالب السحر ،أو تحقيق ما يبغونه من بني آدم من مقاصدهم الخبيثة .
وبما أنَّ المبتلى بمسِّ الجن مريض ،وقد رفع الله سبحانه الحرج عن المريض،كما قـال تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَــرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) سورة النور،الآية:61 .
وهو ضحية مسٍّ لا ذنب له فيه : وجب علينا أن نكون جميعاً مناصرين له ،ومعينين له على هذا العدو الذي هو أخبث الأعداء المتسلطين على الإنسان ، إذ العداء قديم بين بني آدم والشياطين .
وقد جاءت الشريعة بالحث على نصرة المظلوم،ومن الأدلة الواردة في ذلك :
قـوله تعـالى : ( وَتَعَـاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) سورة المائدة،الآية: 2 .
ومن التعاون على البر : نصرة المظلوم ، وإغاثة الملهوف ..
ومن التعاون على الإثم والعدوان : خذلان المبتلى بمس الجن ، وإسلامه للجان يعبث به ، ويتصرف به كيف يشاء ، وإعانة الشيطان عليه ،وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـال : ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ) متفق عليه .
يقول الإمام القرطبي-رحمه الله- في تفسيره (10/170) :
( إن الشرع جاء بالانتصار من الظالم ، وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على من قدر من المكلفين ،وجعل لهم السبيل على الظالمين ) .
وفي صحيح البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )فقال رجل يا رسول الله : أنصرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال : ( تحجزه أو تمنعه عن الظلم ، فإنَّ ذلك نصْرُه ) .
وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ولينصْرِ الرجلُ أخاه ظالماً أو مظلوماً؛ إنْ كان ظالماً؛ فلينهه ، فإنَّه له نَصْرٌ ، وإنْ كان مظلوماً فلينصُرْهُ ) .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( أو مظلوماً ) بإعانته على ظالمه وتخليصه منه .
فنصر المظلـوم وردع الظالم من أيِّ جنسٍ كان:واجبٌ شرعاً وعقلاً وفطرة .
يقول القرطبي في التفسير(13/260) : (نصر المظلوم : دين في الملل كلها على الأمم ، وفرض في جميع الشرائع ) .
وعن البراء بن عازب-رضي الله عنه- قال: ( أمرنا النبي بسبع ونهانا عن سبع : فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس ، ورد السلام، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإبرار المقسم) متفق عليه .
هذا الحديث يدل على أنه يجب نصر المظلوم،ودفع من أراد إذلاله بوجه من الوجوه ، وهذا مما لا يعلم فيه خلاف، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر .
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته .. ) متفق عليه .
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- : (ولا يخذله )رواه مسلم .
قوله : (ولا يسلمه ) قال الحافظ في الفتح ( 5/97) :
( ولا يسلمه بضم أوله ، يقال : أسلم فلان فلاناً إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يَحْمِه من عدوه ، وهو عام في كل من أسلم غيره ، لكن غلب في الالقاء إلى الهلكة .. ) إلى أن قـال : (وقـوله :ولا يسلمه، أي : لا يتركه مع من يؤذيه ، ولا فيما يؤذيه ؛ بل ينصره ،ويدفع عنه ،وهذا أخص من ترك الظلم ،وقد يكون ذلك واجباً، وقد يكون مندوباً بحسب اختلاف الأحوال ) .
وقوله : (ولا يخذله ) بضم الذال المعجمة من الخذلان ،وهو ترك النصرة والإعانة .
قال النووي في شرح مسلم (16/120): (معناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ، ولم يكن له عذر شرعي ) .
وعن ابن مسعود-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أُمِر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدةٍ، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت جلدة واحدة،فجُلِد جلدة واحدةً، فامتلأ قبره ناراً، فلمَّا أفاق قال: علام جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاةً واحدة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصُرْه ) حسن لغيره .
قال المناوي في فيض القدير(5/471و6/47) : (خذلان المؤمن حرام شديد التحريم : دنيوياً كان مثل أن يقدر على دفع عدو يريد أن يبطش به فلا يدفعه ، أو أخروياً كأن يقدر على نصحه من غيه بنحو وعظ فيترك ) .
وأختم هذه النصيحة بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- حين سُئل عن نصر المظلوم من قبل الجن ، فقال:
( يجوز ، بل يستحب ، وقد يجب أن يُذب عن المظلوم ، وأن ينصر ؛فإنَّ نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان وفى الصحيحين حديث البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع : أمرنا بعيادة المريض ،واتباع الجنازة ،وتشميت العاطس ،وإبرار القسم ، ونصر المظلوم ..
وفى الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالماً، أو مظلموماً ، قلت: يارسول الله انصره مظلموماً فكيف انصره ظالماً ؟قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ) .
وأيضاً: ففيه تفريج كربة هذا المظلوم وفى صحيح مسلم عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله فى الدنيا والآخرة ، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه ) .
وفى صحيح مسلم -أيضاً- عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرقى قال : ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) .
لكن ينصر بالعدل كما أمر اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، مثل: الأدعية والأذكار الشرعية،ومثل أمر الجنى ونهيه كما يؤمر الانسي وينهى ،ويجوز من ذلك ما يجوز مثله فى حق الإنسي، مثل: أن يحتاج إلى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه ،كما ثبث فى صحيح مسلم عن ابى الدرداء قال:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك،ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلمَّا فرغ من الصلاة قلنا: يارسول الله قد سمعناك تقول فى الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ، ورأيناك بسطت يدك ؟ قال : إنَّ عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة ، فلم يستأخر ثلاث مرات ،ثم أردت أخذه ،ووالله لولا دعوة أخينا سليمان لا صبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة ) .
ففى هذا الحديث : الإستعاذة منه ، ولعنته بلعنة الله ، ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الشيطان عَرض لى فشد عليَّ ليقطع الصلاة عليَّ ، فامكننى الله منه، فذَعتُّه ،ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول أخى سليمان: ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) سورة ص،الآية:35. فردَّه الله خاسئاً .فهذا الحديث : يوافق الأول ويفسره ،وقوله: (ذَعَتُّه)أى: خنقته، فبين: أنَّ مد اليد كان لخنقه ،وهذا دفع لعدوانه بالفعل ، وهو الخنق ،وبه اندفع عدوانه فرده الله خاسئاً .
إلى أن قال : ( وإذا برئ المصاب بالدعاء والذكر، وأمـر الجـن ونهيهم وانتهارهم وسـبهم ولعنهم، ونحـو ذلك مـن الكلام حصل المقصود، وإن كـان ذلك يتضمن مـرض طائفـة مـن الجـن أو مـوتهم فهم الظالمـون لأنفسهـم، إذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعـد عليهم كما يتعـدى عليهم كثير من أهل العزائم، فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله، وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه؛ ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك، ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه، وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه .
وأمَّا من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر اللّه به ورسوله فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع للّه ورسوله صلى الله عليه وسلم في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب بالطـريق الشرعى التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجـن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه .
وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغى لمثل هذا أن يحترز لقراءة العوذ ، مثل آية الكرسي والمعوذات، والصـلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه، فإنه مجاهد في سبيل اللّه، وهذا من أعظم الجهاد، فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه، وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق ..
وأمـا إسـلام صاحبـه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين، وهذا فرض على الكفايـة مع القدرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمـه)، فـإن كان عـاجزًا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب، وإن كان قادراً وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه ) مجموع الفتاوى(19/49-56) .
بقلم / أبي عبد الرحمن اليوسف .
السبت/27/3/1428
أبوظبي 0