أعتقد جزما أن مشكلتنا تتعلّق بالمفاهيم
فنحن لا نستطيع التركيز على مفهوم معين وعندما نأخذ المفهوم نربطه بعدة مفاهيم مختلفة
تؤدي جميعها الى نفس المغزى ..الى حيث لا نعرف أين نحن
عندما نعلّم ونتعلم " الرضا "
نربط هذا المفهوم بمفاهيم عدة وينشأ الفرد غير مدرك لقيمته الحقيقية وغير قابل للتمحور والتطور
وعندها ربطنا بين " الرضا " و" الحرمان " واعتبرنا الحرمان هو الوسيلة المؤدية الى فضيلة الرضا
أقول هذا لأني أرى الوسيلة الصحيحة كما يعتقدها ويعتمدها جمع كبير من البشر في سبيل تعليم ابنائهم الرضا والقبول ، هو الحرمان .
الحرمان ليس الاّ وسيلة للعقاب ...وليس وسيلة لتعلّم اي شيء آخر
اما نحن فنستعمل الحرمان تارة للعقاب وتارة اخرى لتعليم بعض الفضائل ، فينشأ الازدواج الاجباري في ذهنية الأفراد
ولا يستطيعون التمييز أحرمانهم كان عقابا أم ثوابا ..؟
ولا بدّ لي ان أوضح ماذا يجب ان يكون الحرمان في التربية السليمة
انا شخصيا أثق بالحرمان كوسيلة من وسائل العقاب ، بل اعتبرها الوسيلة الوحيدة للعقاب التي يجب ان تُتبع في التعامل مع الابناء
انت محروم من لعبتك المفضلة لهذا المساء ...السبب......
أنت محروم من مشاهدة برامجك المفضلة اليوم ...السبب ...
أنت محروم اليوم من أكل الشيكولاتة..الحلوى المفضلة بعد الغداء ..السبب...
انت محروم من النزول الى الحديقة هذا المساء ..السبب ...
أكثر من هذا ..لا يجوز العقاب ..لا كمّا ولا وقتا ....ولا يجوز استعمال الحرمان في صور أخرى ...
مثل بعض السلبيات :
أنت محروم من الخروج من غرفتك لهذا اليوم ..
أنت محروم من الجلوس مع الضيوف اليوم
أنت محروم من استقبال صديقكَ/صديقتكِ هذا النهار
أنت محروم من الخروج معنا هذا المساء ..
انت محروم من الذهاب الى المدرسة !
انت محروم من زيارة جدتك
طرق الحرمان هذه تولد نقصا وفجوة كبيرة في المستقبل
قد نتطرق الى آثار هذا لاحقا ،
أما الآن ، فسأتحدث عن امور أخرى يعتبرها البعض من الايجابيات ولا اعتبرها كذلك
المكافأة
درجت العادة الشعبية على مكافأة الابن عندما ، يحرز المراكز الاولى ، يتفوق ، يعمل عملا له نتائج طيبة
هذا جميل ومحفّز والى آخره
ولكن ماذا عن الوجه الآخر ؟
ما سيحدث ايضا ، ان الابن سيشعر في هذه المكافأة تقديره لذاته وقيمته الشخصية
لا ينكر الكبار ان من يحضر له هدية متوسطة سيختلف شعوره بها عمن يحضر له هدية قيمة مثلا ، مهما كانت حالته المادية
فقد قال المثل قديما : أنا غنية وأحب الهدية
المقصود ان كثيرا من العاقلين الراشدين الكبار ، يشعرون بالهدية تعبيرا عن قيمتهم لدى المُهدي
فماذا عن الابن ..وان تلك الهدية من والديه ؟ اللّذين هما بالنسبة اليه شيء أكبر من الحياة ؟
وعندما نربط قيمته الذاتية ، بالمركز الاول ، او التفوق ..فنحن نقوده الى لا شيء
وقد كان الافضل ان نقول له مثلا ..ان بذلت جهدا ملحوظا اكبر من الأول سوف تحصل على مكافأة
لأن أسباب التفوق والمراكز الاولى ، اسباب معقدة ، لا ترتبط على وجه الاطلاق بالجهود او بالرغبة وانما اشياء نفسية وذهنية خاصة أخرى
اما ان شجعناه على ( بذل الجهود ) فنحن نريه الطريق الى النجاح والى تحقيق حلم التفوّق
ويحدث أيضا على الناحية الأخرى ..ان بعض الاهالي يبالغون في هذا الامر ..
ومضمون ان حصلت على التفوق ستحصل على مكافأة ، هو انك ان لم تحصل على التفوق سوف تُحرم من المكافأة
وكيف يترجمها الابن : تُحرم من قيمتك الذاتية ،
سيزداد قلق الابن ..بدل ان تزيد جهوده ، وسيقل تركيزه
لأن عقله الآن مشغول ليس بالمكافأة بل ( بقيمته الذاتية ) المرتبطة بهذه المكافأة
انها باختصار نظرية ( كُن أو لا تكون )
يترك الآباء ابناءهم في صراع ليس بعده صراع ..بينما يشعرون في قرارة أنفسهم انهم أدّوا رسالتهم بهاتين الكلمتين .
نحن اذن في زمن اختلف فيه مفهوم المكافأة ، وأصبح مرتبط بمفهوم القيمة الذاتية
لذلك فمن الضروري اعتبار المكافأة شيء يقدم الى الناجحين والفاشلين على حد سواء
هذه ليست مفاجأة ، بل هي طريقتي التي جرّبتها كثيرا وأدّت الى ثمار كبيرة
في النهاية يُكرّم الناجحون والفاشلون
يكرّم المتفوقون والمتأخرون
يكرّم المتفوق ..لأنه أدى شيئا مميزا
ويكرّم المتأخر ..لأنه عمل معروفا وأعطى المجال للبعض بالتميز ، فقد أسدى الى هؤلاء خدمة !
وبما ان المكافأة مرتبطة في اذهان الابناء بالقيمة الذاتية
فنحن بطريقة غير مباشرة نقول : انتم جميعا ذوو قيمة عالية وقدر كبير
وبالتالي يزيد تقدير الذات لدى الجميع ..وسيقل مستوى القلق في محاولة تحقيق الذات
وهذا سيؤدي بمعظم الناس الى النجاح ما دام تقديرهم لذاتهم بخير وان فشلوا الآن ..حتما سينجحون فيما بعد ، فقط نعطي الوقت وقتا وسنرى النتائج ،
اما من تنهار قيمته الذاتية شيئا فشيئا ..فهو لا شك سيفشل .. وسيقوده الفشل الى فشل آخر
طالما اعتبر هذا الفشل تأكيدا ملموسا على تدني قيمته الذاتية ....
من الضروري التركيز حتى لا تُخلط المفاهيم كالعادة
أنني أتحدث عن ( الأداء الدراسي للطلبة )
ولا أتحدث عن مفاهيم الحياة العامة مثل مكافأة الصادق ومعاقبة الكاذب مع تحديد السبب للثواب والعقاب
هذا أمر آخر ويستحسن ان نعرف ان لكل شيء طريقته واسلوبه المميزان وان لا شيء يشبه الآخر والقاعدة العامة على وجه الاطلاق لا تخدم كثيرا في أساليب التربية والتعليم معا
فللتربية اسلوب ..وللتعليم اسلوب آخر
ولهذا الموضوع مناسبة حزينة ، تتعلق بطالب الثانوية الذي قتل والده ووالدته وعمه وعمته واخوته
والسبب ان الجميع يطلبون منه ان : يذهب ويدرس ، ولماذا لا تذاكر وغير ذلك من الاقاويل التي تنزل كالمطارق على جمجمته وتسبب له ضغطا عصبيا لم يحسن ان يسيطر عليه .
كثير من الجرائم حدثت بواسطة طلبة ثانوية تجاه اهاليهم بسبب العدوانية والشراسة في التعامل مع الطالب في فترة دراسته في السنة النهائية
وللأسف كثير من الاهالي لا يأبهون الى اداء ابنهم الدراسي طوال الاعوام السابقة ثم ينهالون عليه طرقا في آخر سنة دراسية بعد ان تشكل اسلوبه في الفهم والدراسة واصبح من الصعب ان نقوم بعملية حشو الصندوق في انبوبة اسمنت مسلح !
اذن اياكم من عبارة : اذهب وذاكر ...
بل اجلس الى جانب ابنك وساعده كيف يذاكر ، ودعك من اسلوب العصبية والتوتر والكشرة والجدية في تلك الاوقات
فهذه ليست نهاية العالم .. والمشكلة ان الكل يعرف انه ما من ثمة شيء يعتبر نهاية العالم الا نهاية العالم .
والبعض حقا يكونون على وشك ان تخرج لهم انياب ومخالب ليفتكوا بالطالب المسكين الذي لم يحسن فهم الدروس
سأل احد الاصدقاء صديقه ..هل انتهيت من مذاكرة دروسك؟
فقال الصديق ..للتو انتهيت من الضبع الذي يذاكر لي
وعلى الناحية الأخرى
نحن نحرم ابناءنا اشياء كثيرة باستطاعتنا توفيرها لهم بحجة ان نعلمهم الرضا والقناعة
وبحجة عدم تعليمهم الجشع والانانية
ان الأشياء لا تعلم الاطفال شيء ، فهي أشياء جامدة لا حياة فيها
وانما طريقة تعاملنا مع هذه الاشياء المقدمة اليهم هو ما يعلمهم كافة الصفات
فلنحرص على طريقتنا نحن لأننا نقدمها الى الابناء مع الاشياء
من الضروري ان نمنح ابناءنا كل ما نقدر عليه ..وعدم الاكتراث بأي حجة كانت
ان تعلم ابنك الخصوصية ..ليس معناه ان تمنعه من تقديم الاشياء للغير
ان تعلم ابنك عدم الانانية ..لا يعني ان تمنعه من الاحتفاظ بما يخصه
ان تعلم ابنك عدم الجشع هو ليس ان تعطيه تفاحة واحدة بدل اثنتين
بل ان تعطيه تفاحتين ..وتقول له : هاتان لك ، واحدة منهما امنحها لمن تشاء !
فلكل فكرة ومفهوم اسلوب تربية ..وآخر للتعليم
من الضروري ان نمنح الابناء ..آخر درجات العاطفة والعطاء
وكل ما نقدر ان نقدمه لهم وما يرضي خيالهم
وبالمناسبة .. البعض يدعون ان الاطفال خيالهم واسع
نعم هذا صحيح ، خيالهم واسع ولكن ضمن البيئة والمحيط الذي يعيشونه
من النادر ان يحلم ابنا يعيش في مناطق متوسطة مع اقران من نفس الحالة المادية والاجتماعية
بما يحلم به ابناء المناطق المرفهة مقارنة مع اقرانهم
ولذلك فمعظم الآباء قادرون على تحقيق احلام ابنائهم
ان هذا امر ضروري للتربية والتعليم
فسيتعلم الطفل انه قادر على تحقيق احلامه مهما كانت في المستقبل ولا يجد شيئا مستحيلا
وسيتعلم امرا مهما آخرا .. ان قيمته الذاتية وايمانه بنفسه وبمركزه وقدره في هذه الحياة له وجود
ما دام أهله يقدّرون أحلامه ويحققون له جزءا كبيرا منها
وستزداد في المستقبل توقعاته عن نفسه
فهو يستحق الحلم ويستحق تحقيقه
يستحق الأفضل وليس الأقل
حان الوقت لنسف نظرية الحرمان وتغيير أساليب التربية وابتكار اساليب جديدة للتعليم
والا سننتهي بعالم مليء بالمجرمين تحت سن الثامنة عشر
سنكون نحن من صنعهم
فرفقا بهذه الأمانة التي نحملها في اعناقنا
وليكن شعارنا في التربية والتعليم ..تأكيد وجودهم وأهميتهم ومكانتهم
كانوا ما كانوا