يقول تعالى ( وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) ( النمل :20 )
مادة فقد ، الفاء ، والقاف ، والدال إما أن تكون : فقد بمعنى ضاع ، فتقول فقدت الشئ ، أي ضاع مني وإما تفقدته ، فمعناه : أنه لم يضيع ولكنك تبحث عنه في مظانه ، فالتفقد هو : بحث عن شئ في الأماكن التي تتوقعه فيها .
وقول الله تعالى ( وتفقد الطير ) : يدل على أن الرئيس أو المهيمن على شئ لا بد له من المتابعة فساعة مجلس القضاء أم مجلس العلم أو أي مجلس كان ؛ لابد وأن ينظر ليتفقد المجلس ؛ والتفقد من سليمان عليه السلام يدل على المتابعة وكان محتاجاً للهدهد ، فبحث عنه فلم يجده ؛ لإن سليمان عليه السلام كان يريد أن يقوم برحلة في الصحراء ، والهدهد خبير في منابع المياه في الأرض فهو يرى الماء في الأرض ، ولذلك جعل الله له منقاراً طويلاً ؛ لإن ميزته أنه يأكل أي شئ على سطح الأرض ، بل يأكل مما اختبأ تحت سطح الأرض .
لذلك لما تكلم عن بلقيس وقومها الذين كانوا يعبدون الشمس ؛ إستعجب من أمرهم وقال :
(ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ) لإن رزقه من هذا الشئ المخبوء في الأرض .
وقول سليمان ( مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) .. ساعة يستفهم واحد عن شئ جوابه عند نفسه لا يكون هذا إستفهاماً ؛ لإنه يقول : ( مالي لا أرى الهدهد ) كأنه قد استبعد أولاً أن أحداً يتخلف عن مجلسه ، فهو استفهم أولاً ثم تيقن أنه غائب فقال : ( أم كان من الغائبين ) وما دام كان من الغائبين لا بد من الجزاء ؛ لإن أي مخالفة لا تقابل بجزاء تثمر مخالفات متعدده والهدهد لما كان غيابه بدون إذن من سليمان ، قال سليمان : ( لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) .. هذا ليس جبروتاً من سليمان ولكنه حزم ؛ ومع ذلك علق أمر العقوبة على حجة الهدهد ، مما يستخلص منه أن المرءوس إن رأى خيراً يخدم فكرة رئيسه ويخدم الفكر العام ، وكان الوقت ضيقاً لا ينتظر حتى يأخذ الإذن أو الأمر ، بل ينصرف ثم يخبر رئيسه بها .
العلماء بحثوا في العذاب الشديد الذي توعد سليمان به الهدهد ... فقالوا إن الهدهد يتميز ويتفاخر على باقي الطيور بأن شكله جميل : الوانه المخططه ، وعرفه ومنقاره الطويل والتاج الذي فوق رأسه ؛ فقال سليمان : هذا الريش الذي يتخايل به الهدهد سأنتفه ، والقيه إلى النمل والحشرات . أو أن العذاب الشديد للهدهد أن يرميه سليمان ؛ ليعيش مع غير بني جنسه من الطيور الأخرى ، وهذا عذاب شديد له لأنه لن يكون له إلف بحركتهم أو نظامهم أو التعامل معهم ، فيكون غريباً طريداً بينهم ومن العذاب أيضاَ أن يجعله يخدم أقرانه من الهداهد الأخرى أو يجمعه مع أضداده يتشاجر معه ، لإن هناك بعض الطيور يضاد بعضها بعضاً ، فساعة يرى طائر طائراً من أضداده يتشاجر معه وتقوم بينهم معركة ، ولذلك يقولون ( أضيق من السجن عشرة الأضداد ) . ومعنى : ( فقال ) أي أنه كلم سليمان قبل أن ينهره ، وقال له
بكل ثقة : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) ... انظروا سليمان الذي كان عنده كل هذا الملك الذي لم يؤته أحد وحوله كل هذا الصولجان يقول له هدهد ضعيف :
( أحطت بما لم تحط به ) .. فكيف يجرؤ على أن يقول ذلك لسليمان النبي الملك ؟؟ ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) : تعبير قرآني جميل يسمونه في اللغة التجانس ؛ والجناس أن تأتي بلفظين متشابهين في المبني ومختلفين في المعنى ، والنبأ هو الخبر العجيب وليس الخبر العادي ؛ يقول تعالى : ( عم يتساءلون . عن النبأ العظيم ) ( النبأ ) فلا يقال : نبأ إلا إذا كان الخبر هاماً وعجيباً . ومسألة بلقيس وعرشها وقومها الذين يسجدون للشمس خبر هام جداً ؛ فلو قال : وجئتك من سبأ بخبر ؛ لا يعني بالمعنى المطلوب ولا يناسب أهمية الحدث .
ومعنى ( أحطت ) .. الإحاطة معناها إدراك المعلوم من كل جوانبه ؛ فالمحيط يحيط بالمركز إحاطة مستوية من كل نقطة بأنصاف الأقطار ، وهي إحاطة تامة . ولكن هل قول الهدهد لسليمان : ( أحطت لما لم تحط به ) ؛ هل هذا نقص في سليمان لأنه لا يعرفها ؟ لا .....
بل هذا تكريم لسليمان ؛ لإن الله سخر له ناساً يخدمونه في كل ناحية ؛ وفرق بين أن تفعل أن الشئ لذاتك ، وبين أن يفعل لك . فمعنى أن يفعل لك فهذه سيادة أخرى وتكريم كبير ؛ ولأجل أن أن يعلمنا الله سبحانه وتعالى أننا لا نكتم مواهب النابغين - ونعطي لهم مجالاً أن يقولوا رأيهم ويأخذوا فرصتهم ويبرزوا مواهبهم لأن هذه خدمة لك أنت أيها الرئيس أو المسئول ؛ ولمصلحتك ، ولإن سليمان لم يسأل الهدهد عن سبأ ، فمعنى هذا أنها كانت معروفة أو سمعوا عنها ولكنه لا يعرف التفاصيل التي عرفها الهدهد ولكن ما هذا النبأ الخطير الذي عرفه الهدهد عن سبأ ؟....
قال تعالى موضحاً : ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم ) .
تملكهم أي تحكمهم ، ومعنى : ( وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم ) أي مما يؤتاه أقرانها من الملوك ؛ وليس مثل الذي أوتيه سليمان عليه السلام ؛ لإن هذا شئ آخر ، والعرش هو مكان جلوس الملك وكان عادة يتمشى مع عظمة الملك .
والهدهد أخبر سليمان عليه السلام بقوله : ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم ) .. هذا فيما يتعلق بالملك ؛ لأن نبي الله سليمان كان ملكاً نبياً ، فذكر له الأشياء التي رآها وتتعلق بالملك ؛ وفيما يتعلق بالعقيدة التي تهم سليمان - لأنه نبي - أخبره بقوله عن ملكة سبأ ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) .. ( النمل :24)
فكأن الهدهد يعرف قضية العقيده وقضية الإيمان ؛ وأن الخلق لا يجب ولا يصح أن يعبدوا إلا الله !!! ولذلك يقول إنه وجدها وقومها يعبدون الشمس من دون الله ، ولماذا لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض ؟؟ كيف لا يعبدون المنعم عليهم بكل النعم ؟!
إذن ... نعلم سر الحق في قوله تعالى ( وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( الإسراء :44)
إنظروا إلى كلام الهدهد وعقيدته ووعظه الجميل في قوله تعالى : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) ....سبحان الله والله أكبر .....
والذي أحزن الهدهد انهم يسجدون للشمس من دون الله ؛ ولذلك قال مستنكراً فعلهم : ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ) .... والهدهد خلال طيرانه في قصر بلقيس رأى كوة أو طاقة تدخل منها الشمس ، وهي مبنية بشكل هندسي بحيث تدخل منها الشمس كل يوم بعد شروقها ، فتتنبه بلقيس وتستقبلها بالسجود !! ولذلك حينما ذهب الهدهد بكتاب سليمان إليهم وقف في الطاقة وسدها بجناحيه ، فانتظرت بلقيس دخول شعاع الشمس وارتفاعها ، فصعدت إلى الطاقة لترى ما بها ، فطار الهدهد وألقى كتاب سليمان عليه السلام فأخذته بلقيس .
إذن .. الهدهد يستغرب أن يسجد هؤلاء القوم للشمس ولا يسجدون لله الخالق الرازق الذي يخرج لهم رزقهم ، ويعلم سرهم وجهرهم .
ثم يقول سبحانه : ( الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) .. فالله هو المستحق للعبادة وحده وهو رب العرش العظيم وقلنا إن عظمة عرش بلقيس ، وعروش ملوك الدنيا كلها هي على قدر عظمة البشر وقدرتها ولكن عظمة عرش الله على قدر عظمته وقدرته سبحانه وتعالى .
سليمان لم يأخذ كلام الهدهد حجة مسلمه ، ولكنه أراد أن يتأكد : ( قال سننظر أصدقت ام كنت من الكاذبين ) ...
النظر محل العين ، والصدق والكذب لا يعرفان بالعين ، ولكن كلمة النظر هنا انتقلت من العين الى معنى العلم بالحجة ؛ ولذلك في التوقيع على كثير من الأوراق يقول " نظر" والناس يقولون هذه مسألة فيها نظر ، أي أنها لا تمر مرور الكرام بل لابد من بحثها والتأكد منها .
ولذلك قال سليمان : ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ، مع أن المقابل لكلمة صدقت هو كذبت ، ولكن سليمان لم يقل للهدهد سننظر أصدقت أم كذبت ، ولكن قال ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ... وهذا لطف وترفق من الحاكم برعيته ؛ لإن معنى : ( أم كنت من الكاذبين ) أي حتى إن كذبت فأنت لم تكذب وحدك ، ولكنك ستكون ضمن كثير من الكاذبين ؛ لإن كثيراً من الناس يكذبون ، او أنه من الكاذبين ميلاً لهم أو قريباً لهم ، وهذا يدل على إن إلهامات سليمان كنبي جعلته يعرف أنه صادق ، ولكنه أراد أن يتأكد ، حتى لا يجامل جندياً من جنوده .
ثم يقول بعد بذلك : ( إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فأنظر ماذا يرجعون ) ...هذا معناه أن سليمان فكر في الأمر ، وقال : نكتب لها كتاباً ونرسله مع الهدهد ؛ حتى يتأكد من الرد ويعرف أبعاد الموقف . ومعنى ( ثم تول عنهم ) .. أي أبعد عنهم قليلاً وانظر ماذا يفعلون ؛ لإنهم سيراجعون بعضهم البعض ؛ و ( يرجعون ) أي يراجع بعضهم بعضا...( يتبع )