الخطبة الأولى :
الشيخ مراد عياش اللحياني
لقد غاب عن حياة الكثيرين منا سمت جليل وسمة ربانية ، أنستنا الدنيا ومشاغلها ولهونا بها في الليل والنهار هذه الخصلة الكريمة الشريفة ، وهي صفة قد امتدح الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاعليها .
نعم لقد فقدنا البكاء من خشية الله ، وغاب عنا هذا السمت البكائي وندر حتى صار يقال: إن فلاناً يبكي!! وحتى صار من المستغرب أن تجد من يخشع في الموعظة، وحتى صار صف الملتزمين في الصلاة أشح بالدمع من الصخر ،إن هذا كله مؤذن بخلل خطير، ومنذر بشرٍ وبيل.
لا نريد المخادعة، ولا الضحك على النفس، فربما التمس الإنسان لنفسه ألف عذر، وربما قال ما قال إياسلأبيه: إنما هي رقة في القلوب، يريد أن المسألة طبائع فهناك من في قلبه رقة، وهناك من في قلبه قسوة!! وكل هذه مبررات واهية وحجج ساقطة، واجعل نصب عينيك أبداً قول من قال: إذا لم تبك من خشية الله، فابك على نفسك لأنك لمتبك!!
كثير منا من يقرأ القرآن ولكن لا تدمع عيونه من خشية الله، وكثير منا من يستمع إلى أحاديث تذكره بالآخرة وتخوفه بالنار وتحببه في الجنة ولكن قلبه لا يخشع ولا يخضع ولا يلين، فقد عمت البلوى، وانتشرت المعاصي والآثام، فلم يبقَ لهذا القلب خوف من الله، ولم يبق لهذه العين خشية حتى تدمع شوقًا إلى الله.
أيها الإخوة : ليسأل الواحد منا نفسه: بالله عليك، متى آخر مرة دمعت عيناك خشية وخوفًا من الله؟ ولعل جواب كثير منا قد يكون: من سنوات عديدة، أو أنها لم تدمع أصلاً خشية لله ، فلماذا هذه القسوة في القلوب؟! ولماذا هذا التحجر في العيون؟! ما هو إلا بسبب الابتعاد عن منهج الله والركون إلى هذه الدنيا الفانية، فقد نقرأ القرآن ولا نتأثر ولا نبكي، ونسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقشعر الجلود، ونسمع المواعظ والتخويف بالله وبالآخرة ولا تحرك فينا ساكنا.
وحسبنا هذا التهديد الإلهي المخيف:فَوَيْلٌ لّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ.
فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطشه تبارك وتعالى.
ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشية للرحمن سبحانه وتعالى.
ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا ارتعدت فرائصه من خشية المليك سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون : من أعظم أسباب القسوة للقلب وقلة البكاء من خشية الله: الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها .
وكذا من الأسباب كثرة الذنوب ، فوالله ما تحجرت العيون وقست القلوب إلا بتراكم المعاصي والآثام، فأصبح القلب لا يجد مساغًا لآيات تتلى وأحاديث تُذكِّر، والنبي rيقول: ((إنالعبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقلقلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآنكَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَرواه أحمد والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني. فقد أظلم هذا القلب بشؤم المعصية، فكيف لقلب علاه الران أن يبكي من خشيةالله؟! وكيف لقلب سودته المعاصي والآثام أن يتفكر في خلق الله؟!
ومن أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته، ولذلك ما ألف الإنسان صحبة -لا خير في صحبتها- إلا قسى قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى.
أحبتي في الله، إن البكاء من خشية الله نعمة ما وجدت على الأرض أجل وأعظم منها، وما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ؛ لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر: كيف أرقّق قلبي لذكر الله ومحبته؟
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ للبكاء أسبابًا وسبلاً، أولها الإيمان بالله، فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا رقّ قلبه ودمعت عينه ، فلا تأتيه الآية من الله والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلمإلا قال بلسان حاله ومقاله: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أشكو قسوة قلبي! قال: أذِبه بذكر الله.
ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرّة عينه وسرور قلبه، وسبحان الله! نحن الواحد منا إذا دخل في الصلاة تذكّر أمور دنياه، وما هذا إلا لقسوة في القلب.
ومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه.
ومنها أن صاحبه يخلو بربّه فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا، فإنه لا قلب لك).
ولعلنا نسأل أو نتساءل: من أين تأتي رقة القلوب وانكسارها وإنابتها إلى ربها؟ ومن الذي يتفضل عليها بإخباتها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف يشاء،كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن . كقلب واحد . يصرفه حيث يشاء)) رواه مسلم.