نحو المرتقى المنشود !!!
إن المرتقى الذي بلغه عبد الله بن مسعود الهذلي -رضي الله عنه- حين وضع قدمه على صفحة عنق أبى جهل -أعظم رمز من رموز الجاهلية في زمنه ..
بل هو فرعون هذه الأمة - ذلك المرتقى كان صعباً حقاً ، ولم يكن مرتقى لابن مسعود ، إنما كان مرتقى الإسلام على رغم أنف الجاهلية ..ولم تبلغه الأمة إلا بعد معاناة طويلة ، وتربية شاقة دقيقة ، ومحن وشدائد تنقطع دونها الأعناق .
واليوم والجاهلية تتبجح ، وترفع عقيرتها بنداءات الكفر ، وتستبد وتعربد ولا تجد من يقف لها أو يردها عن حياض الإسلام..
اليوم تظهر الحاجة - وإن تكن قد ظهرت منذ زمن بعيد -إلى جيل يدير التاريخ كدورته الأولى ، فيضع أمته على قمة المرتقى ..
بعد أن استطابت عيش السفوح وحظائر الوديان قروناً طويلة ، ولكي يخرج هذا الجيل - البركان - لا بد له من تربية طويلة جادة ..
وصبر ومصابرة على اللأواء والجهد ، وتمحيص وتخليص من شوائب الاعتماد والعمل والمسار . أقول هذا وقد رأيت شيئاً من الخلل والاضطراب في تربية شباب الإسلام ، ما بين فجاجة تلتقط الشاب من حمأة الجاهلية..
فلا تمر به ساعات ، أو أيام إلا وهو (الداعية) المشار إليه بالبنان ، أو رتابة تراوح به زمناً طويلاً فيقطع
من عمره سنوات ولم يبتعد عن نقطة البداية غير خطوات ، والطريق أمامه طويل طويل ، والعودة إلى نقطة البداية أقرب وأيسر .
وليته إذا عاد يقف عن نقطة البداية ، ولكن الغالب أنه يعود إلى ما قبلها وهنا تكون الكارثة . أو صياغة جزئية تأخذ من الإسلام جانباً واحداً فتجعله إسلاماً كاملاً ، وتغفل عن عمد أو جهل ما سواه ، فيخرج لنا أرباع رجال وأسباع وأعشار ، وتغيب حقائق الدين الكبرى عن عيون أولئك ، فلا يرون إلا ذلك الجزء الذي تعلموه ، وفى كل هذه الحالات للشيطان ظفر كبير .
من أجل ذلك كتبت هذه الأسطر ، رجاء أن تعين على إنارة زوايا الطريق للسائرين -كل السائرين - وهذه معالم التربية ا لمطلوبة :
أولاً : هي تربية عقدية فكرية :
تقوم على نصوص الوحيين ، وتلتزم منهج السلف الصالح في تفسيرهما وفهمهما ، والاستنباط منهما ، وتنزيل أحكامهما على قضايا الواقع المعاصر ..
تربية تجلي المفاهيم الاعتقادية ، وتغرسها في أعماق القلوب ، وتتعاهدها حتى تصبح يقينيات راسخة ، لا تتصدع لشبهة ،
ولا تنحني لرغبة ولا لرهبة ، أصولها في الأفئدة ، وفروعها في الجوارح ، وثمراتها في واقع الحياة ..ومالها الروح والريحان ، والمقعد الصدق عند المليك المقتدر ، تروى بماء التوحيد الخالص ، وتشرق عليها شمس اليقين ..
ويحميها ذو القوة المتين ، ويباركها الله رب العالمين ، لأنها انطلقت من علم صحيح : [ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ ] [محمد : 19] .
ثانياً : هي تربية روحية :
قوامها الخشية ، وتقوى الله في السر والعلانية ، والخشوع عند سماع القرآن . ، خشوعاً يملا القلب خوفاً من الله ، ورجاء لما عنده ، وحباً للقائه ، خشوعاً تجري معه ينابيع العيون ، وتتفجر به أنهار الطمأنينة ، وتلين لأصدائه الجلود .
ثالثاً : وهي تربية جماعية :
ترسخ مفهوم الأمة الواحدة ، والجسد الواحد ، يقوم بين أفرادها ترابط عضوي مصيري قوي ، حتى كأنهم البنيان المرصوص ..
ليس فيه لبنة شاذة ولا فاذة ، وتعمق في النفوس أن الذئب إنما يدرك من الغنم القاصية ، مع التوازن والاعتدال ..
فلا تغرق الفرد في بحر الجماعة فيضمحل ويتلاشى ، ولا تحمله على أكتافها فيتعالى ويتناشى ، تحفظ له كيانه..
وترتب له في البنيان مكانه ، يلين هو في أيدي إخوانه ، ولكنه ليس بإمعة ، بل هو ناقد بصير ، إذا رأى ما يريبه نصح واجتهد وبلغ ..
فإن نفع ذلك وإلا قال : لا ، بملء فيه ، من غير أن يهدم البنيان ، أو يزعزع الأركان .
رابعاً : وهى تربية متدرجة :
تعطي كل أحد ما يصلحه ويلائمه ، وتعد لكل مرحلة ما يناسبها وتوفر لها احتياجاتها ، فلا تتجه لإعداد الولاة ، في وقت تكون حاجتها إلى توفير الدعاة ..
ولا تنصب السقوف وهى لم تُحكم بعد بنيان القواعد والعمد ، وإن التجاوزات والقفزات سبب للبلاء ، وتجاهل المراحل والسنن الربانية
واستعجال الوصول قبل الآخرين ، يعرض السائرين لمخاطر الافتراس أو الاندراس ، وأيهما كان فالنتيجة متقاربة ،
وإن مرحلة [ كُفُّوا أَيْدِيَكُم ] [النساء : 77] غير مرحلة [ انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً ] [التوبة : 41] .
فهي تلبس لكل حالة لبوسها ، وحين تكون في مرحلة فإنها تعد أحسن الإعداد وأكمله ، لما يتلوها من مراحل
وإذا نظرت إلى الحاضر بعينين ، نظرت إلى المستقبل بألف عين.
خامساً : وهي تربية واعية :
تعرف ما يحيط بها من الأشواك ، وما يصوب إليها من السهام ، وما يوضع في طريقها من العوائق والعواثير
وتدرك أن خفافيش الظلام لا يطيب لها طلوع الشمس ، ولذلك تثير الغبار ، وتفجر قنابل الدخان ، علها تحجب النور
عن أبى عامر الفاسق وأحفاده ، لا ينفكون يحفرون الحفر ليقع فيها الدعاة المجاهدون ،
وأن ابن أبي وسلالته داخل الصف يخذلون ويخبلون
(إشارة إلى قوله تعالى في الآية [47] من سورة المائدة :( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً) ..
وأن أبا جهل وورثته لا يزالون يقاتلون عن أحساب الجاهلية وموروثاتها ، وأن
الشهوانيين والمارقين والحداثيين يقولون :
[ لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ]
إنها تعلم الخطط وأربابها ، وتبصر مساربها وأبوابها ، وتحيط بكل ما يعلمه الخصوم من مكر الليل والنهار ..
وتعي ما ينبغي أن يقال وكيف يقال ، وما لا ينبغي أن يقال ، ومتى-إذا شاء الله تعالى-أن يقال .
سادساً : وهى تربية عالية :
تعلق النفس بمعالي الأمور ، وترفعها عن سفسافها ، وتفرغ النفوس من حظوظها العاجلة ، فلا ترضى إلا لله ....
ولا تغضب إلا له ، ولا توالي إلا فيه ، ولا تعادي إلا لأجله ، وتتعلق بالمبادئ لا بالأشخاص
وكم جر التعلق بالأشخاص والمسميات على أمة الإسلام من الفرقة والشتات ، وذهاب الريح ، وضياع الهيبة
إنها تربية تجعل النفس تستجمع خصال الخير ، وأبواب البر ، ورؤوس الأخلاق الفاضلة تحب هداية الناس
وتسعى إلى ذلك ما استطاعت ، وتفرح بها سواء تحققت على يديها أو على يدي غيرها تحسن أدب الاستماع والحوار
وتغتفر زلات المجتهدين ، وتحسن الظن بالصالحين ، وتلتمس لهم المعاذير فيما أخطأوا فيه ، وترى أخطاءهم - إن لم يكن بد من رؤيتها - تراها قطرات سيئات في بحار حسنات .
سابعاً : وهي تربية جهادية جريئة :
ترى أن من أهم واجباتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
تقول الحق لا تخشى فيه لومة لائم ، تعرف الفرق بين المداهنة المرفوضة ، والمداراة المقبولة ، تفتح عيونها على الحق ..
ولا تغمضها ولو للحظة عن الباطل ، وترى أن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، وأن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب
ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله -حديث حسن رواه الحاكم عن جابر .
وبعد :
أيها المربون الفضلاء !
هل صبغت مناهجكم التربوية على نحو هذه الأسس؟
وهل كان التنفيذ على نحو الصياغة ؟
ذلك ما نرجو أن يكون والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو وحده المستعان.