في مسيرة سالم بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أن رجلاً زاحمه في مني، فالتفت الرجل إلي سالم ـ وسالم علامة التابعين ـ فقال له : إني لظنك رجل سوء. فقال سالم: ما عرفني إلا أنت! لأن سالماً ت رضي الله عنه ـ يشعر في نفسه انه رجل سوء، وهذا صواب لأن المؤمن يرمي نفسه بالتقصير كلما رآها تعالت أو تطاولت أو نسيت، كما أنه يلوم نفسه ويحاسبها. لكن الفاجر والمنافق يزكي أما الناس!
وكان سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: قومي يا مأوي كل شر!
سعيد بن المسيب يقول لنفسه هذا الكلام!! ونحن ماذا نقول لأنفسنا؟ اللهم استرنا بسترك.
وفي قصة ثابتة بأسانيد صحيحة، قام رجل في الحرم أمام ابن عباس ـ حبر الأمة وترجمان القرآن ت فسبه أمام الناس، وابن عباس ين-رأسه!! أعرابي جلف يسب علامة الدنيا ولا يرد عليه.. وواصل الأعرابي الشتم، فرفع ابن عباس رأسه وقال: أتسبني وفي ثلاث خصال؟!
قال: ما هي يا ابن عباس؟
قال: والله ما نزل المطر بأرض إلا سررت بذلك، وحمدت الله علي ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة!!
قال: والثانية؟
قال: ولا سمعت بقاض عادل إلا دعوت الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية!!
قال: والثالثة؟
قال: ولا فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمون كما أفهم منها!!
هذه هي المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً علي أسس العقيدة وأخلاق الإيمان، وإلا فهم أمة أمية خرجت من الصحراء، لكنه صلي الله عليه وسلم بناهم شيئاً فشيئاً ، ورصع مجدهم، واعتني بهم، حتى أصبحوا قادة الأمم النبي صلي الله عليه وسلم وقدوة حسنة للناس!
وقالوا في المثل: (( من لك بأخيك كله)) تريد أخاً مهذباً كله، لا ، هذا لا يكون.. خذ بعضه، خذ نصفه ، خذ ثلثه، خذ ثلثيه.
فهل وجدت في المجتمع المسلم شخصاً ـ مهما بلغ من الرقي وحسن الخلق ـ أن يكون كاملاً، لا حيف فيه ولا نقص؟! كلا، هذا لا يكون ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ )(النور: الآية21).
تجد هذا كريماً لكنه غضوب! وتجد هذا حليماً لكنه بخيل! وتجد هذا طيباً لكنه عجول! لأن الله وزع المناقب والمثالب علي الناس.
من ذا الذي ترضـــي سجاياه كلها
كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإذا عدت معايب الإنسان فاعلم أنه صالحن ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد معايبه أبداً مهما حاولت!!
وبعضهم لخيره وصلاحه، تقول: ليس فيه إلا كذا، وهذا هو الخير ، ومن غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام. ومن غلبت مساوئه محاسنه ، فهو المنحرف عن منهج الله ـ عز وجل ـ لن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاق النبي صلي الله عليه وسلم يقول تعالي: )أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الاحقاف:16)
فبين الله في الآية أن لهم مساوئ ، وأنه يتجاوز عنهم ـ سبحانه وتعالي ـ وأن لهم خطايا النبي صلي الله عليه وسلم وأن لهم ذنوباً، ولكنهم كما يقول الحديث: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)).فبعض الناس ماؤه قليل.. أي شيء يؤثر فيه، قطرة تؤثر فيه! ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه، وبذله، وعطائه، وعلمهن وسخائه، وفضله، ودعوتهن وخيره، وصلاحه، وصدق نيته غلي غير ذلك من الصفات. وهذا تأتيه أحياناً نزغات من نزغات الشيطان، لكنها لا تؤثر فيه.
ولذلك يقول ابن تيمه ونقلها ابن القيم عنه في مدارج السالكين: أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله ـ عز وجل ـ فألقاها في الأرض، وأخذ برأس أخيه يجره إليه. يقول ابن تيمية: أخوة كان نبياً مثله، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس، ولكن عفا الله عنه!
قال ابن القيم:
وإذا الحبيب أتي بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
وفي حديث رواه البهقي بسند حسن، قال: (( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)).
قال ابن القيم: إلا الحدود ، وهذه عبارة تثبت في بعض الروايات من لفظه صلي الله عليه وسلم فإن الناس متساوون في الحدود، لكن في المسائل التي ليس فيها حدود، فعلينا أن نقيل صاحب العثرة ـ من أهل الهيئات ـ عثرته، وأهل الهيئات هم الذين لهم قدم صدق في الإسلام، وفي الدعوة، وفي الخير، وفي الكرم، وفي الصدارة، وفي التوجيه، وفي التأثير، وهم وجهاء الناس، وأهل الخير، وأهل الفضل، فهؤلاء إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلي سجل حسناتهم، وإلي دواوين كرمهم، ومنازلهم عند الله وعند خلقه.
يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
ويقول في بيت آخر:
إذا أنت لم تشرب مراراً علي القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فصاحب أخاك، وتحمل منه الزلة، واغفر له العثرة، وتجاوز عن خطئه.
وكان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان، فيه كذا وكذا من المحاسن، ويسكت عن المساوئ.
وليتنا نتذكر حسنات الناس ، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا وله حسناته، ولو لم يكن من حسناته إلا انه يحب الله ورسوله المصطفي صلي الله عليه وسلم لكفي.
يؤتي برجل يشرب الخمر إلي الرسول صلي الله عليه وسلم فأمر به فجلد، وكان قد أتي به كثيراً. فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به. فقال المعلم العظيم صلي الله عليه وسلم : (( لا تلعنوه فوالله ما علمت أن يحب الله ورسوله)).
وفي لفظ : قال رجل: ما له أخزاه الله. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ك (( لا تكونوا عوناً للشيطان علي أخيكم)).فاثبت له صلي الله عليه وسلم أصل الحب، وهي حسنة، واثبت له بقاءه في دائرة الأخوة الإسلامية، وهذه من أعظم الحسنات، فلماذا لا نتذكر للناس محاسنهم وبلاءهم في الإسلام؟!
إنك لا تجد شريراً خالصاً إلا رجلاً كفر بالله، أو تعدي علي حدوده، أو أعلن الفجور، أو خلع ثوب الحياء، أو عادي الأولياء والأخيار الصالحين، ونبذ الإسلام وراءه ظهرياً.
منقول
لعائض القرنى