كنتُ طفلا لم أجاوز العاشرة من عمري يوم أن سمعتُ مارواه زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ نضَّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه] . (1)
وقريبا من هذا مارُوي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : [ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ يبلغه أوعى له من سامع ] ( 2 )
لقد تلقيتُ هذا الحديث بعقل طِفْل لم يدْرك عمق المعاني النبوية الكريمة
فجالت الأفكار والتساؤلات في نفسي
كيف يمكن أن يكون مُبَلَغ أوعى من سامع ؟!
كيف يمكن لحامل فقه أن يحمل الفقه إلى من هو أفقه منه ؟!
كنتُ أنشدُ تطبيقا عمليا لهذا الحديث حتى يستقر في نفسي
ومضتْ بِضْع سنين
حتى إذا كنتُ يوما من الأيام في مجلس من مجالس الذِّكر
وكان معي في هذا المجلس أحد الدعاة إلى الله ورهط من الصالحين
كان هذا الداعية يجتهد في زيارة القرى والهِِجَرْ ليُعَطِرَ أسماع أهلها بآيات الذكر الحكيم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
وكان يذكر لنا شيئا من قصص أهل القرى وأحاديثهم وأحوالهم
وكان مما ذكره قصة عجيبة ملئتْ قلبي نوراً ويقينا
عرفتُ بعد القصة لذَّة الذكر
وبردْ اليقين
عشتُ مع القصة أمتع الأوقات
فإليكم أحداث القصة لتتلذذوا بها كما قد تلذذتْ وحتى يزيدكم الله بها إيمانا وتثبيتا :
بدأت أحداث القصة في إحدى القرى في بيت من بيوت الله
بعد أن أُديت فريضة من فرائض الله
قام أحد الدعاة يُحدث المصلين عن فضل ذكر الله
لم يزلْ الشيخ متنقلا بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث السنة المطهرة وأحوال السلف الصالح لترغيب عباد الله في ذكره سبحانه وتعالى ، والناس ينصتون إليه في لهفة وشوق إلى هذا الذكر الذي تعطشت له قلوبهم
كان ممن يجلس بين المصلين رجل كبير في السن أمي لايقرأ ولايكتب
قد أقبل بوجهه وقلبه على كلام الشيخ
حتى بلغ الشيخ ماجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
[ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ] ( 3 )
وما إن سمع هذا الحديث حتى حفظه عن ظهر قلب
ووقع في نفسه أيما موقع
حتى استقر في قلبه
فطرد عنه كل داء
وبات الشوق إلى ذكر الله يخالج قلبه
خرج من المسجد وهو يردد هذه الكلمات المباركات [سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ] ، ولم يزل كذلك حتى وصل بيته فنظر في حال أهله فوجد أنهم في إقبال على الدنيا وإدبار عن الآخرة ، فنادى في أهله
( إني لكم ناصح أمين )
أنتم هاهنا في لهو ولعب وكأنكم لم تسمعوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم !
قالوا : وماالذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم
[ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
ثم أردف قائلا
يازوجتي وياأبنائي ويابناتي أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان
هيا طهروا قلوبكم وثقلوا موازينكم بهاتين الكلمتين
[سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
فاستجاب أهله لنداءه المشفق عليهم
ورطبتْ ألسنتهم بذكر الله
كان الرجل يخرجُ بعد صلاة العصر فيغشى الناس في أسواقهم ومجالسهم
نظر إلى أحوال قومه فوجد أنهم في شُغلٍ عن ذكر الله
فنادى فيهم
ياقومي : هل أدلكم على ماينفعكم
قالوا : نعم
فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
فلم يزل في قومه مُلحاً عليهم داعياً إياهم
إلى ترطيب ألسنتهم وتطهير قلوبهم بذكر الله عز وجل
فاستجاب له قومه وأهله
عاش الرجل مستمسكا بهذا الذِّكر
لم يكدْ لسانه يفتر عن تلك الكلمات المباركات
لم يكن يقابل أحدا إلا أقرأه حديث النبي الكريم
ودعاه إلى ذِكْرِ الله
لقد امتلأ قلبه بنور هذا الذِّكر
وفاض هذا الحب على اللسان
قد أراد هذا الرجل لكل من عرفه أن يشعر باللذة التي شعر بها
أراد للناس أن يأنسوا بذكر الله كما أنسْ
وتطمئن قلوبهم كما اطمئن قلبه
ومضتْ بِضْع سنين والرجل على حاله لايغير ولايبدل
كل من نظر إليه يتذكر من ساعته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
حتى إذا داهمه المرض وأُدخل المستشفى
كان المرض قد أنهك جسده فلم يعد يقدر على شيء
غير أن لسانه لم يزل متلذذا بالكلمات المباركات
[سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
كان يدخل عليه الأطباء وفريق التمريض من العرب والعجم فينادي فيهم ويرغبهم في الذِّكر الذي اجتمع حبه في قلبه
حتى إذا جاءت اللحظات الأخيرة
والطبيب عند رأسه
كان طبيبا من دولة عربيه وعلى دين النصارى
فناداه يادكتور
قال الدكتور : نعم ياعم .
قال الرجل : يادكتور قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ] .
ثم فاضت روحه إلى بارئها
عندها ذُهل الطبيب
ورقَّ قلبه
لقد شاهد الطبيب في حياته العملية حالات احتظار كثيرة
غير أن هذا المرة لم تكن كسابقاتها
لقد مات الرجل المسن وهو يتحدث بكل ثقة وثبات وهدوء
الطبيب لم يتردد كثيرا فما هي إلا أيام وقد أخذ قراره الحكيم وشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله
والآن ونحن في ختام القصة
عودوا معي إلى الحديثين اللذين افتتحت بهما قصتي
تأملوا
كيف سمع هذا الرجل بحديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وبلغه كل من رأته عيناه !
كيف صلُحت حياته بحديث واحد !
كيف حسُنت خاتمتة بحديث واحد !
فهنيئاً لكل من باتت ألسنتهم رطبة من ذكر الله
لقد حدثتُ بهذه القصة خلق كثير
رأيت الدمع وهو يفيض من أعينهم
رأيت شفاههم وهي تذكر الله عز وجل
رأيت النور يتشقق من قسمات وجوههم
واعلم يارعاك الله
أن الذكر قد يبلغ في قلبك ماقد بلغ في قلوبِ القوم
إن أردت أن تشعر بقدر اللذة التي كان يعيشها ذلك الرجل المسن
أو أولئك اللذين نهجوا نهجه
فابدأ الآن ورطب لسانك بهذه الكلمات
[سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
وتذكر يارعاك الله
أنَّ اللذة التي تنشدها لن تتحقق لك بقول هذه الكلمات لأيام معدودة
عش مع هذه الكلمات بقلبك أبدا ماحييت
واجعل قلبك يرتوي من فيضها الطاهر
واجعل لسانك لايفتر من هذا الذكر المبارك
عندها ستدرك قدر السعادة التي كان يعيشها ذلك الرجل رحمه الله تعالى .
__________________________________________________ _____
( 1 ) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 404 ، والمراد بقوله (نضَّر الله ) دعاء له بالنضرة وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة ، وقوله ( ليس بفقيه ) أي ليس عنده القدرة على استخلاص الأحكام والعلم الذي تضمتنه النصوص ، وقوله ( أفقه منه ) أي أقدر منه على التعرف على مراد الله وأحكامه وتشريعاته .
( 2 ) صححه الألباني – المصدر : صحيح ابن ماجه برقم 191 ، ومعنى الحديث : رب مبلغ عني أوعى أي أفهم لما أقول من سامع مني .
( 3 ) متفق عليه .
كتبه الكَلِمُ الطيب يوم الأربعاء 19 – 12 -1429هـ الموافق 17 – 12 – 2008 م .