وساريةٍ فوقَها أسوَدٌ ... بكفَّي سَبَنْتَى ذفيفٍ صَمَدْ
السارية: الجبل المرتفع الذاهب في السماء كأنه عمود، والأسود: العَلَم بكفَّ رجل شجاع".
أقول: وهذا على المبالغة، أي كأنه لا جوف له فيجوع ويظمأ.
وكفى دلالةً على صحة المعنى الأول ثبوتُ القول به عن أئمة التابعين، ثم هو الأوضح مناسبةً للسياق وسبب النزول. وذهب بعض الأجلة (1) إلى تصحيح كلا المعنيين. وهذا إما مبني على صحة استعمال اللفظ [2/ 294] المشترك في معنييه معًا، وإما على ما يشبه التخيير الإباحي، كأنه قيل: مَن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب، ومن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب.
والمتكلمون يقولون: إن المعنى الأول محال على الله عزَّ وجلَّ, لأن ذلك من صفات الأجسام. ولا شأن لنا الآن بهم، وإنما الكلام ها هنا فيما فهمه المخاطبون الأولون، وقد سمعتَ قول كبار التابعين المروي عن بعض الصحابة. ومن الواضح أنه لا ينافي المعاني التي ينكرها المتعمِّقون من آيات الصفات وأحاديثها. وكذلك المعنى الثاني لا ينافيها، وإنما حاصله أن الله سبحانه هو الذي يَعمِدُ الخلقُ إلى قصده فيما يهمُّهم. وحاصله أنه سبحانه المنفرد بالربوبية واستحقاق الألوهية.
قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ** واضح، ليس فيه ما ينافي تلك المعاني.
__________
(1) كأنه يعني به شيخ الإِسلام ابن تيمية في "تفسير سورة الإخلاص" له. وتصحيحه للمعاني الواردة عن أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين ليس من باب استعمال المشترك في معنيَيه أو معانيه، ولا من باب التخيير الإباحي، ولكنه رضي الله عنه صححها كلها لأنها متلازمة, وكل معنى منها وجه من وجوه معنى الصمد، فالسيد الذي كمل في سؤدده وعلمه وحلمه وحكمته وغناه هو الذي استغنى عن الطعام والشراب، وتعالى عن الجوف والبطن والمعدة والأمعاء.
وشيخ الإسلام يرى فيما نقل من أقوال السلف في التفسير أنها متلازمة متشابهة لا اختلاف فيها. وكثير منها بل أكثرها من باب التمثيل وتقريب المعنى، يذكر وجه من وجوهه ونوع من أنواعه، كما لو سألك أعجمي عن الخبز فأشرت إلى رغيف وقلت له هذا، وأشار غيرك إلى رغيف بشكل آخر وقال: الخبز هذا، وأشار ثالث إلى فطير أو بقسماط أو بقلاوة، وقال: مثل هذا؛ فتجتمع هذه التفاسير عند الأعجمي على معنى كلَّي أنه ما صُنع من دقيق الحبط ولو تنوَّعت كيفيات الصناعة، فكلها خبز أو من نوع الخبز أو شبيه به، وحينئذ فلا تعارض ولا تضاد ولا تناقض. وكذلك إذا تأملنا تفاسير السلف للصمد وجدناها متلازمة يشرح بعضها بعضًا ويبني بعضها بعضًا، تجتمع كلها على إثبات عظمة الله وتنزيهه عن النقائص. والله أعلم. [م ع].