كانت بلقيس ملكة اليمن مثالاً لحكمة المرأة وعقلها الحاضر، وقد ذكر القرآن الكريم قصتها في معرض الحديث عن نبي الله سليمان عليه السلام، ومن مناقبها أنها عاشت حياة الجد والرسالية، وأنها أسلمت مع سليمان، ولم تستنكف عن الاعتراف بظلمها لنفسها على الرغم من مُلكها العريض.
حوار الهدهدين
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها، فإنه طَلَبَ الهدهد فلم يره، وإنما طلبه لأن الهدهد يرى الماء من تحت الأرض، فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا؟ وهل هو قريب أم بعيد؟ فبينما سليمان في بعض مغازيه إذ احتاج إلى الماء، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره، فقال:
(لأعذبَنه عَذَاباً شَدِيْداً أوْ لأذْبَحَنه أوْ لَيَأتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مُبِيْن) “النمل 21”.
وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستاناً لها خلف قصرها فمال إلى الخُضرة، فرأى فيه هدهداً، فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا؟ فقال له: ومَنْ سليمان؟ فذكر له حاله وما سخر له من الطير وغيره، فعجب من ذلك فقال له هدهد سليمان : وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة (وَأوْتيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيْم) “النمل 23” وجعلوا الشكر لله أنْ سجدوا للشمس من دونه، وكان عرشها سريراً من ذهب مكللا بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ، ثم إنّ الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذُرْهِ في تأخيره، فقال له: أذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَالْقِه إليها.
فوافاها وهي في قصرها، فألقاه في حِجْرِهَا، فأخذته وقرأته وأحضرت قومها، وقالت: (إني ألِقِيَ إليّ كِتَابٌ كَريْمٌ إنَه مِنْ سُلَيْمَان وَإِنه بِسْم اللَهِ الرحْمَن الرحِيْم * أن لّاَ تَعْلوا عَلَي وَائْتُوني مُسْلِمِيْن * قَالَتْ يَا أيهَا الملأ أفْتُوني في أمْري مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أمْراً حَتى تَشْهَدُون * قَالُوا: نَخنُ أوُلو قُوَةٍ وَأولُو بَأس شَدِيدٍ * وَالأمْرُ إلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تأمُرِين) “النمل 29 33”.
وهنا استبانت حكمتها فأعملت عقلها بحيلة وفِراسة، فقالت: ( إنّي مُرْسِلَة إلَيْهِم بِهَدِية ) “النمل 35” فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى، وإنْ لم يقبلها، فهو نبي من الله.
وجاءت الهدية إلى سليمان فماذا كان موقفه؟ (فَلَما جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مما آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيتِكُمْ تَفْرَحُونَ) إلى قوله: (وَهُم صَاغِرُون) “النمل: 36 37”.
إسلام بلقيس
فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وأخذت معها الأقيال من قومها وهم القواد وقدمت عليه فلما قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه: (قَالَ يَا أَيهَا المَلأ أَيكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ 0قَالَ عِفْريتٌ منَ الْجِن أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مقَامِكَ وَإِني عَلَيْهِ لَقَوِي أَمِينٌ) “38 39”
يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للنداء، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، (فَقَال الذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِن الكِتَابِ) وهو آصف بن برخيا وكان يعرف اسم الله الأعظم: (أنَا آتِيْكَ به قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إليْكَ طَرفُك..) “النمل 40”.
وقال له: انظر إلى السماء وأدم النظر فلا ترد طرفك حتى أحضره عندك، وسجد ودعا، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سريره، فقال (.. هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبي ليَبْلُوَني أأشْكُر أم أكفر) “النمل 40” إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره فلما جاءت قيل (أهَكَذَا عَرْشُكَ؟ قَالَتْ كَأنه هُو) “النمل 42” ولقد تركته في حصون حصينة وعند جنود أشداء، فكيف جاء إلى هنا؟
قال سليمان للجن: ابنوا لي صرحاً تدخل علي فيه بلقيس، فبنوا له صرحاً من قوارير خضر، وجعلوا له طوابق من قوارير بيض، فبقي كأنه الماء وجعلوا تحت الطوابق صور دواب البحر من السمك وغيره، وقعد سليمان على كرسي، ثم أمر فأدخلت بلقيس عليه، فلما أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لُجَة ماء، فكشفت عن ساقيها لتدخل، فلما رآها سليمان صرف نظره عنها (قَال إِنهُ صَرْح مُمَرّدٌ مِنْ قَوارِير..) “النمل 44”. فلما تمت المفاجأة ووقفت الملكة مندهشة أمام هذه العجائب التي تُعجز البشر، أيقنت أنها أمام نبي كريم، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف، (.. قَالَتْ رَب إِني ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَب الْعَالَمِينَ) “النمل 44”.
“إني ظلمت نفسي” كلمة لا يقوى عليها أكابر الرجال، لكن المرأة العاقلة اجتازت العقبات وتخطت العقد النفسية وقالتها بكل وضوح وصراحة وبسالة “ولقد كان كبراء قريش كما يقول صاحب الظلال يستعصون على دعوة الرسول إياهم إلى الإسلام وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله فتكون له الرياسة عليهم، فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين وبين القائد والتابعين”.
إن التأويل السويّ للقصة يقول بتولي المرأة أعلى المواقع وفي التاريخ المبكّر فبالجدارة تسنّمت المنصب وليس بالوراثة، وذلك كما تقول الروايات وقد خلصت شعبها من الاستبداد وآثاره المقيتة، عاشت بلقيس رسالة المرأة كإنسان، فلم تعرف حياة اللهو وضعف الشخصية، بل عاشت حياة الفكر والكفاح والبذل، فكان الجزاء من جنس العمل.
منقول...