بيان دقة التعبير ولطفه
وإن أردت أن تفهم وزن كلام الرؤيا في رجحان وزنه وخفته فاستدل بمسألة بلغني فيها عن ابن سيرين أن امرأة سألته أنها رأت في منامها رجلا مقيدا مغلولا فقال لها: لا يكون هذا لأن القيد ثبات في الدين وإيمان والغل خيانة وكفر فلا يكون المؤمن كافرا, قالت المرأة: قد والله رأيت هذه الرؤيا بحال حسنة وكأني أنظر إلى الغل في عنقه في ساجور, فلما سمع بذكر الساجور قال لها نعم قد عرفت الآن لأن الساجور من خشب والخشب في المنام نفاق في الدين كما قال في المنافقين: كأنهم خشب مسندة فصار الساجور والغل جميعا وكل واحد منهما تأويله نفاق وخيانة وكفر, وهما في أمثال التأويل أقوى من القيد وحده وليس معه شاهد يقويه, فهذا رجل يدعى إلى غير أبيه وإلى غير قومه ويدعى إلى العرب وليس منهم قالت المرأة: إنا لله وإنا إليه راجعون وهكذا كل مسألة من الرؤيا معها شاهد أو شاهدان تدل على تحقيق التأويل كما قال الله تعالى يحكي رؤيا فرعون: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف إلى آخر الآية. فالبقرات السمان هي السنون الخصبة والعجاف هي السنون الجدبة وقال: وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات وهي السنون المسماة في تأويل البقرات, ولكنها صارت شاهدات لتحقيق هذه السنين في البقرات كما صار الساجور شاهدا للغل بتحقيق الخيانة والكفر, وليس نوع من العلم مما ينسب إلى الحكمة إلا يحتاج إليه في تأويل الرؤيا حتى الحساب وحتى الفرائض والأحكام والعربية وغرابتها لمعاني الأسماء وغيرها, وما فيها من أمثال الحكمة وشرائع الدين والمناسك والحلال والحرام والصلاة والوضوء, وغير ذلك من العلم والاختلاف فيه يقاس عليه ويأخذ منه فيه, فليكن ما في يدك من الأصول المفسرة لك أوفق عندك مما يأتيك به صاحب الرؤيا ليزيلك عنها وإن كان ثقة صدوقا عنك
أصول الرؤيا تتغير وفق حالات الناس في هممهم وآدابهم
(واعلم): أنه لم يتغير من أصول الرؤيا القديمة شيء, ولكن تغيرت حالات الناس في هممهم وآدابهم وإيثارهم أمر دنياهم على أمر آخرتهم, فلذلك صار الأصل الذي كان تأويله همة الرجل وبغيته وكانت لك الهمة دينه خاصة دون دنياه فتحولت تلك الهمة عن دينه وإيثاره إياه فصارت في دنياه وفي متاعها وغضارتها وهي أقوى الهمتين عند الناس اليوم إلا أهل الدين والزهد في الدنيا, وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون التمر فيتأولونه حلاوة دينهم, ويرون العسل فيتأولونه قراءة القرآن والعلم والبر, وحلاوة ذلك في قلوبهم فصارت تلك الحلاوة اليوم والهمة في عامة الناس في دنياهم وغضارتها إلا القليل ممن وصفت, وقد يرى الكافر الرؤيا الصادقة حجة لله عليه, ألا ترى فرعون يوسف رأى سبع بقرات كما أخبر الله تعالى في كتابه فصدقت رؤياه؟ ورأى بختنصر زوال ملكه وعظيم ما يبتلى به فصدقت رؤياه على ما عبرها له دانيال الحكيم. ورأى كسرى زوال ملكه فصدقت رؤياه, فاعرف هذا المجرى في التأويل واعتبر عليه ترشد إن شاء الله تعالى.