ثار جدال بين العلماء في إجابة هذا السؤال: هل الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه وأخرجا منها هي جنة الخلد المعروفة أم هي جنة في الأرض؟
قال القلة أو البعض من العلماء أنها جنة في الأرض قالوا:
أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل آدم وحواء من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين.
وقالوا:
أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس.
وقالوا:
من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها.
وقد رد الإمام ابن حزم في الفصل علي هؤلاء بأن قال:
كل هذا لا دليل عليه؛ أما قولهم: أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين. فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً، وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته، والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه.
وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته.. فهذا لا حجة له فيه، وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول:{لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة** الغاشية11. فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف. ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع.
واحتجوا أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى** طه118. قال: وقد عرى فيها آدم عليه السلام. قال ابن حزم: وهذا لا حجة فيه بل هو حجة عليهم، لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له.
وقالوا أيضاً: قال الله عز وجل {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيرا**الإنسان13. وأخبر آدم أنه لا يضحى. قال ابن حزم: وهذا أعظم حجة عليهم؛ لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد؛ فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك.
وأيضاً فإن قوله عز وجل: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ**البقرة35. إشارة إلى الجنة بالألف واللام، ولا يكون ذلك إلى على معهود، ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد، ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة.
وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين** البقرة36. فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق.
قلت: ونحن نذهب مع الإمام في أنها جنة الخلد للأسباب عدة تضاف إلي ما سبق منها:
أولاً: لوجود الدليل علي أنها جنة الخلد المعروفة ولعدم وجود دليل صريح أو صحيح مخالف.
ثانياً: هذا ما يعلمه كل أهل الكتاب من يهود ونصارى وطالما لا يوجد عندنا دليل علي مخالفته فما استقرا عليه هو الأولي بالأخذ به.
ثالثاً: كذلك هناك أدلة أخري من السنة النبوية تؤكد أنها جنة الخلد المعروفة كما ذكر في الحديث الصحيح قوله صلي الله عليه وسلم: احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا, وأخرجتنا من الجنة!!
فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه, وخط لك التوراة بيده تلومني على أمر قدره على قبل أن يخلقني بأربعين سنة. فحج آدم موسى..
(خرجه أبي داود في سننه عن أبي هريرة وصححه الألباني)
ودل هذا الحديث علي أن الجنة التي هبط منها آدم هي جنة الخلد المعروفة، ولولا ذلك لما لام موسي علي آدم عليهما السلام إخراج آدم لنفسه ولذريته من بعده من الجنة. أيضاً قوله صلي الله عليه وسلم في الحديث: يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة.. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم..الحديث. (خرجه السيوطي عن أبي هريرة وصححه الألباني)
فهذا حديث صحيح صريح في أن الجنة التي أخرج منها آدم وأهبط منها إلي الأرض هي هي نفس الجنة التي سيطلب المؤمنون أهل الجنة من أبيهم آدم استفتاحها لهم فيأبي، وهذه بالطبع جنة الخلد المشهورة المعروفة. وهناك حديث آخر يؤكد مذهبنا من أن جنة آدم هي جنة الخلد المشهورة، إذ أن آدم قد خلق في تلك الجنة بنص قوله صلي الله عليه وسلم: لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك . (خرجه السيوطي عن أنس وصححه الألباني)
إذاً آدم لم يخرج من جنة الخلد إلا بمعصيته والله تعالي أعلي وأعلم.
(كتاب الإنسان: تأليف إسماعيل مرسي أحمد)