ومن الأدلة الوارد في بيان أن الإنس لهم التأثير البالغ في إغواء بعضهم البعض ، قـوله سبحانه في سـورة الناس : ( مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ )
ففي هذه بيان للذي يوسوس ،وأنهما نوعان : إنس وجنٌّ . فالجني يوسوس في صدر الإنسي ،والإنسي -أيضاً- يوسوس إلى الإنسي، فالموسوس نوعان : إنس وجن ،والموسوس إليه نوع واحد وهو الإنس ،وقد قدمنا أن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب ، وهذا يشترك بين الجنِّ والإنس (1).
وجاء في تفسير عبد الرزاق الصنعاني-رحمه الله-(3/410)عن قتادة في قـوله تعـالى : ( مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) قـال: (إنَّ من الناس شياطين، ومن الجن شياطين فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ) .
فبين قتادة أنَّ المعنى : الاستعاذة من شياطين الإنس والجن .
وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) قال : (الخناس الذي يوسوس مرة ويخنس مرة من الجن والإنس ، وكان يقال : شيطان الإنس أشدُّ على الناس من شيطان الجن ، شيطان الجن يوسوس ولا تراه ، وهذا يعاينك معاينة )(2).
فإذا اتضح ما تقدم تقريره ، فاعلم : أن شياطين الإنس هم جماعة من الناس محسوسة ، نعيش ونتعامل معهم ، وصفاتهم الـخَلْقية كصفاتنا ،ولكن ممارستهم للإفساد بين البشرية ،وقيامهم بالدور الذي تقوم به شياطين الجن ، هو الأمر الذي يميزهم عن بقية الناس ، إنهم يقومون بهذا الدور في السر والعلانية ،ولذلك كان خطرهم أكبر على البشرية من شياطين الجن ،كما قال مالك بن دينار : (إن شيطان الإنس أشد عليَّ من شيطان الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي ).
وكما قـال ابن زيد : (شيطان الإنس أشدُّ على الناس من شيطان الجـن ، شيطـان الجن يوسـوس ولا تراه ، وهذا يعاينك معاينة ) .
فهذه الكــلامات الصـادقة الكاشفة من هؤلاء الأئمة الأعلام-رحمهم الله-تيبن حقيقة شياطين الإنس ، وأنهم من تميز بالفساد والدعوة إلى الرذيلة والأخلاق المذمومة ..
وهذا الصنف من الناس : تراهم في واقع وجودهم لا همَّ لهم إلا حبّ الشهوات وإلقاء الشبهات في قلوب العباد ..
ومن صفاتهم : حبُّ الزعامة والشهرة الكاذبة ..والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .. والتسلط على العباد تعذيباً وقهراً وإذلالاً ..
وشياطين الإنس : هم عبيد الشهوة والهوى ، الذين ابتكروا أساليب الغواية ..وتفننوا في إضلال العباد بكلِّ ما يملكون من مال وجهد ؛ فنعوذ بالله منهم -كمْ أوقعوا بوسائل إعلامهم وكتاباتهم من أُناس كانوا على جادة الصواب والأخلاق السوية .. والله المستعان .
وشياطين الإنس : هم ألئك المترفون الذين امتلأت جيوبهم وبطونهم من الحرام على حساب جَوْعة المساكين من رِعاع الشعب،ثم قاموا بتسخير تلك الأموال في خدمة ما توحيه إليهم شياطينهم ،فابتكروا كلَّ وسيلة وأداة رضيتها شياطينهم لإفساد الناس .
فهذا الجمْعُ الظالم لنفسه ولغيره : هم بؤرة الشيطان ،وسعادته التي يفرح بها في عالم ألاعيبه ،وأساليب غوايته ..
فكل فساد نراه في الأرض اليوم هو من إيحاء شياطين الجن والإنس : ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) 3) .
والبشرى لهؤلاء الظالمين إن لم يتوبوا : إنَّ عذاب الله عزَّ وجلًّ حاصلٌ لكم ، وهو آت وقريب ..
قال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً)سورة النساء،الآية:119-120 .
ويقول تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )سورة المجادلة،الآية:19.
وقال عزَّ وجلَّ: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً) سورة مريم،الآية:68 .
__________
1-انظر:بدائع الفوائد،لاين القيم(2/808)وآكام المرجان،للقاضي الشبلي(ص195)ومجموع الفتاوى،لابن تيمية(17/512-513).
2-أخرجه ابن جرير في التفسير(12/753) .
3-انظر:عالم الجن،لعبد الكريم عبيدات(560-569) .