"يا ابن آدم، أنا شهر جديد وعلى عملك شهيد؛ فاغتنم مني أربعًا قبل أربع؛
اغتنم صومًا حضاريًا ينجيك من عذاب النار.
اغتنم صومًا اقتصاديًا قبل مغادرة الأهل والدار.
اغتنم صومًا اجتماعيًا ليس فيه خيار.
واغتنم صومًا سياسيًا حتى لا تكون من أهل البوار".
قلت: يرحمك الله، هل من مفسر لهذه الألغاز، ومبين لهذه الألفاظ؟
قال: يا رجل، اسمع بياني فإني إن تكلمت لا أعيد، وإن سكت فلن أزيد..
قلت: حسنا هات ماعندك !
قال: أما الصوم الحضاري، فاعلم -يرحمك الله- أن "الحضارة" و"العمران" كلمتان خفيفتان على اللسان، يهفو لهما العقل والوجدان، فصاحبهما بالإيمان؛
فذلك نجاة للأفراد والأوطان، وهما ثقل لك في الميزان، ومسرة عند لقاء الرحمن.
ودونك والاتباع، وعليك بالإبداع؛ فإن الحضارة بناها المبدعون؛ فصم عن الركون والسكون، وهيئ نفسك لمشاق السنين، وصم عن التشاؤم فهو بضاعة اليائسين، وأقبل على التفاؤل فهو زاد الطامحين، وعليك بالعلم مع العمل؛ فما رأيت حضارة بلا فعل، ولا تقدمًا بجهل، ولقد كنتم أصحاب حضارة، واليوم تختلفون في حكم إمارة، والحضارة شهادة لك أو عليك؛ فكن شاهدًا ولا تكن مشهودًا، وكن والدًا ولا تكن مولودًا.
قلت: زدني، زاد الله من فضلك، وعمم نفعك وعلمك.
قال: فأما الصوم الاقتصادي فإن القناعة شعار الصالحين، والتقشف صفة الزاهدين، وإن قلة الأكل شفاء، وإن التخمة هي الهلاك والفناء، ألا ترى أن البطن الأجوف، يكون أكثر صوتًا وأرهف، وأن البطون المنتفخة دائمة العلاج، وللطبيب في احتياج.
ثم اعلم -يرحمك الله- أن الصوم الاقتصادي فيه رحمة بالميزان التجاري، ودرء لمفاسد الاقتراض ولو من عند الجار، ولا تمد يدك بالسؤال الباطل، فإن الله يحب العمل وينبذ العاطل، صم عن الربا، فإن فيه ظلمًا واعتداء؛ فقد أحل الله البيع وحرم الربا، واحرص على الصدقة والزكاة؛ ففيهما خير المحيا والممات.. فيهما مقاسمة ومؤاخاة، وحقوق وواجبات، وصم عن الاحتكار والرشوة؛ ففيها سخط الرب، وللفرد بلوى وللوطن أكبر بلوى، ودع الغش والتطفيف؛ فما يفعلهما إلا سخيف، ومن غشنا فليس منا، ومن بخسنا أشياءنا وأكل أموالنا؛ فهو بعيد عن الله.. بعيد عن الجنة.
قلت: على رِسلك ؛ فهذه أمور لا أفقهها، وأحدايث لا أَكْنَهُهَا؛ فأنا قليل العلم، ثقيل الفهم.
قال: لا تقاطعني، واصبر عني؛ فإن الحديث ذو شجون، وعلى السامع الإنصات بهدوء وسكون.
أما الصوم الاجتماعي؛ فعونك لأخيك، وإنفاقك على ذويك، وتركك ما لا يعنيك، وبرُّك لأمك وأبيك؛ فكن لأهلك سندًا، ولوطنك عمدًا، وتذكر الفقير البائس، والمسكين الفالس، واحفظ الجار ولو جَارَ، ولا تبخل بالوصال لمن صال وجال، وصم عن بغيك وجورك، واتبعه بالإحسان والرحمة من فورك؛ فإن من لا يَرحم لا يُرحم، ومن لا يَظلم لا يُظلم؛ فذاك حكم الديان، وكما تَدين تُدان.
واقصد في مشيك، واغضض من صوتك؛ فإن مشية الطاووس استعلاء وكبرياء، وصوت الحـمـيـر غباء ما بعده غباء، ولا تستعلِ ولا تكابر؛ فالكبرياء رداء الرحمن، والعظمة إزاره؛ فمن شاركه سخط عليه وقصمه، ومن تواضع له أعانه ورحمه.
قلت: هوِّن عليّ، ولا تزد ما بي من بلية، كفاني هَمَّ نفسي؛ فإذا بك تزيديني تعسًا لتعسي.
قال: يا عبد الله، والله فالق الإصباح، لا أبغي لك إلا الفلاح والنجاح؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب وعتاب؛ فخذ ما تستطيع حمله، ولا تترك ما يسهل ضمه؛ فإن السفر طويل، والزاد قليل، والمحاسب شديد؛ فإما شقي أو سعيد.
قلت: عجِّل عليّ بحديثك الباقي، قبل أن ترى أمامك فنائي وهلاكي.
قال: فأما الصوم السياسي، فحذار حذار، فقد سقط في فخّ السياسة أقوام وأقوام، نخبة وعوام.. فهموا أنها مطية للكراسي، ونسوا أنها عبادة لرب الناسِ؛ فكثر الزحام، وتراكلت الأقدام؛ فمنهم الجريح، ومنهم الطريح، وجوه تَسودُ، ووجوه قُعود.. وجوه في القصور مرحومة، ووجوه معدومة، وكثر اللغط، وكثر الشطط.. حتى رآها الناس بدعة ضالة، وفتنة ضارة؛ فتركها الغافلون، ونافس عليها الآخرون.
فوقفت قائمًا، لصاحبي لائمًا: فما الحل؟.. فما الحل؟ وهل بعد هذا الشر من شر؟
قال: يا عبد الله، صبرًا عليّ، وهاك الطريق السوي: إن أردت أن تكون السياسة عبادة؛ فلا تحتكر القيادة، واترك للآخرين حرية الإرادة؛ فإن الظلم ظلمات وهو أول المهلكات.. فصم عن البغي والعدوان وحكمِ الناس بالكذب والبهتان، ولا تَبقَ في هذه المتاهات، ودع للقوم مجالاً للحريات؛ فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وتجعلونهم أنتم في الأغلال حيارى!
وصم عن التشريد والتنكيل بالعباد، ولا تُبعد مَن خالفَك عن البلاد؛ فالبلاد بلاد الله وليست بلادك، والعيال عيال الله وليسوا عيالك، ولا تدري أيكم أقرب إلى ربه، وأكرم لشعبه؛ فرب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه، ولو دعا الله لأجابه، فاتَّقِ فراسة العابدين، ودعاء الذاكرين، ولا تتبع مَن قلبُه قد ضل، وعقلُه قد علّ، وربه قد ملّ؛ فذاك عين البوار، وعلى شفا حفرة من النار.
وصم عن الزور والكذب عند الشهادات، وليس أكبر من تعتيم حق أو تزوير انتخابات؛ فإن فعلتها فهو النكير الأنكر، والخطأ الأكبر؛ فما بعد سلب الإرادة من حق للسيادة؛ فالغش آية السخيف، وحفظ الأمانة شامة الشريف؛ فكن صادقًا أمينًا، للقوي فيهم كابحًا، وللضعيف معينًا؛ فأنت الأب.. وأنت الأخ.. وأنت الشقيق.. وأنت الصاحب.. وأنت الناصح.. وأنت الصديق.
ولا تقل: "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"؛ فهذه كلمات أرقتنا، وعطلت عقولنا وهزمتنا، وأهلكت أَمسنا ونكبت عرسنا، ولكن قل: عدل سلطان أمن وآمان، وسلام وإحسان، وعقيدة وإيمان؛ فهذه سبع منجيات، وللأوطان حاميات، وللحضارة ماسكات.
قلت: هل أنهيت حديثك؟ فإن شوقي قد ساد، وفهمي قد عاد، وعلمي قد زاد؛ فلا تسكت عن الكلام المباح حتى وإن طلع الصباح.
قال: يا عبد الله: إن لكل بداية نهاية، وإن لكل لقاء فراقًا. يا عبد الله، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به.
قلت: يا هذا، قد عظم القول، واشتد الهم، وصعب الفعل، وكثر السؤال؛ فهل لي من ناجية، أم هي القاضية؟
قال: لا تفزع، فما أنا إلا ناصح، وإن أولي رحمة، وأوسطي مغفرة، وآخري عتق من النار؛ فهل بعد هذا الحلم من رعب، وبعد هذا السهل من صعب، وبعد هذه السلامة من ندامة؛ فاغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك،
واغتنمني يا عبد الله؛ فإني ذاهب
لا اعود ... لاأعود ... لا أعود ...
لا أعود ... لا أعود .
منقول مع تغيير بسيط