بيان حقيقة الحسد وخطره
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))[1]، وقال أيضًا: ((دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، وإنما تحلق الدِّين))[2].
الحسد خُلُق ذميم، نهى عنه الله عندما أمَر بالاستعاذة مِنْ شرِّ الحاسد إذا حسَد، ونَهَى الرسول عنه بأحاديث كثيرة، فالحسد إذا تفشى في أمة خلق فيها التنافُر والتباغُض وسوء العلاقة، وقضى على مجتمع متحابب متعاضِد متكامل، وهذا ليس من صفات المجتمع المسلم؛ لهذا ذمه الله ورسوله.
حقيقة الحسد: وهي أنه إذا أنعم الله على أحد بنعمة، فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد، وإن أردت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة.
أما الأول، فحرام على كل حال، إلا نعمة أصابها فاجِر يستعين بها على الشر والفساد، فلا يضرك محبتك لزوالها، فإنك ما أحببتَ زوالها إلا من أجل فجوره وفساده.
• مراتب الحسد: وهي أربع:
الأولى: أن يحب زوال تلك النعمة عن المحسود، وإن كان ذلك لا يحصل له، وهذا غاية خبث الحسد.
الثانية: أن يحب زوال تلك النعمة إليه، وأن تكون له لا للمحسود.
الثالثة: أن يشتهي لنفسه مثلها، ولا يشتهي زوالها عنه بادئ الأمر، لكن إذا لم يحصل له مطلوبه، حسده وتمنى زوالها عنه.
الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم يحصل فلا يحب زوالها، وهذا معفي عنه.
والثالث بين الذم والمدح، والثاني على خطر، والأول هو المذموم الخطير.
وقد ذَكَر العلماء للحسد سبعة أسباب:
أحدها: العداوة والبغضاء، سواء كان عدوانًا أو بسبب إيذاء.
ثانيها: أن ينال أحد منصبًا عاليًا يرتفع عليه به، وهو لا يتحمل، فيحسده ويُريد زوال ذلك عنه، وقد يسعى بقُدرته لذلك.
ثالثها: أن يكون من طبيعته استخدام غيره، فيريد زوال النِّعمة عمن يرغب استخدامهم.
رابعها: التعجب، كما حكى الله عن أعداء الرسل أنهم قالوا: ? مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ? [يس: 15]، ? أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ? [المؤمنون: 47]، ? أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ? [الإسراء: 94]... إلخ.
خامسًا: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص المتزاحمين على مقصود واحد أو صنعة واحدة، فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه على كلِّ نعمة تكون عونًا له في الانفراد بمقصوده، وفي هذا الباب تحاسد الضرات والإخوة في نيل المنزلة عند الوالدين، ونحو ذلك.
سادسها: حب الرئاسة وطلب الجاه لنفسه، كالذي يكون عديم النظير في فن من الفنون أو نوع من الملك والسلطان، فإذا سمع بنظير له، ولو بعيدًا عنه، ساءه ذلك وأحب هلاكه وزوال نعمته أو سلطانه.
سابعها: شُح النفس بالخير على عباد الله، وهذا أكثر أنواع الحسَد.
سبب كثرة الحسد وقلته، وقوته وضعفه في الأمكنة:
وقد حكى العلماء أسبابًا، مِنْ أرجحها ما يُؤيده الحسن، وهو بروز المنافسة لبروز النعمة، وبروز العمل والفن، وغير ذلك.
ولهذا نجد الحسَد مُنتشرًا في القرى الصغار التي يبرز فيها أدنى شيء للعيان، فتكثر الغبطة ويقوى الحسد، بخلاف المدن الكبار؛ فإن الأعمال فيها كثيرة، والحركات واسعة، والمسافات شاسعة، وكل ذي فن من الفنون مشغول عن منافسه ولا يدري عنه، وكل تاجر مُنشغل بتجارته، غارق بأعماله عنْ ملاحظة من سواه، وهكذا سائر الناس في المدن، كلٌّ منهمك في عمله، منشغل عما سواه، لا يتطلع إلى غيره؛ لانهماكه في عمله وانشغاله، عكس القرى، فإن صاحبها يحصي ذرات منافسه، فأهل القرى دائمًا عيون بعضهم لبعض، ولهذا يكثر الحسد وينتشر في القرى انتشارًا فظيعًا، ويقل ويتضاءل جدًّا في المُدُن والأمصار؛ لانشغال كل منهم بعمله.
في العلاج المزيل للحسد: وهذا مِن جانبَيْن:
أولاً: من جانب الحاسد:
فينبغي له أن يعلم أن من لوازم صحة إيمانه بالله هو الرضا بالقضاء، وأنه بحسده لأحدٍ من عباده لا يكون راضيًا بقضائه، بل يكون ساخطًا لحكمه وقضائه، منازعًا له في قسمته التي قسمها لعباده، وعدله الذي أقامه بينهم يخفي حكمته التي قد لا تظهر لكثير من الناس، والمنازعة جناية تقدح في أصل التوحيد والإيمان، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، فعلى الحاسد أن يعلم أنه إذا غش مؤمنًا لأجل الحسد، خرَج من صفة المؤمنين الذين يحبون لإخوانهم الخير، وشارَكَ إبليس وجميع الكافرين في محبتهم الشر للمؤمنين.
ومن جهة ثالثة، فإنَّه إذا عادى مؤمنًا لأجل الحسد كان مبارزًا لله بالمحاربة؛ لأن المؤمن من أولياء الله، ولو كان فيه ما فيه؛ إذ لا تشترط العصمة في أولياء الله.
ومن جهة رابعة يجب عليه أن يتذكرَ عقاب الله العظيم للحاسد في الآخرة.
ومن جهة خامسة يجب عليه أن يرحم نفسه، ويرثي لها من آثار الحسد من الهموم والغموم، والكمد الذي لا يفارق قلبه وصدره، مما قد ينقلب عليه مرضًا عضالاً، وكثير من الحساد قتلهم الحسد، خصوصًا على الرئاسة والجاه.
فإذا علم الحاسد واستيقن أن الضرر عليه في دينه ودنياه، وأن حسده لا يضر محسوده، بل يضره هو، فقد يقلع عن الحسد، ويَسلم صدرُه منه، فيَسلم له دينُه، وتسلم له صحته، حيث يسلم من الوساوس والمنغصات والهموم والغموم المؤذية للصحة، والعياذ بالله.
ومِن جهة سادسة يجب على الحاسد أن يستيقن أن المحسود لا يضره حسده أبدًا، لا في الدين ولا في الدنيا؛ لأنه في الدنيا تتتابع عليه النعمة والإقبال إلى الأجل المقدر لها، ولكل أجلٍ كتاب، ولا تزول نعمته بالحسد، بل تزيد نعمته وأجره.
والمحسود ينتفع بحسد الحاسد في الدنيا والآخرة، بل في الدين والدنيا، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهة الحاسد، خصوصًا إذا أخرجه الحسد إلى الغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه، فهي هدايا يهديها الله إليه على يد حاسده؛ فتزداد حسناته وتقل سيئاته، ولا يزال المحسود يزداد منفعة من الحاسد رغمًا عنه، فإذا استيقن الحاسد ذلك عرَف أنه هو الخاسر دون المحسود، فأقلع عن حسده وتاب إلى ربه، هذا علاج الحاسد.
وأما علاج المحسود، فبعدة أمور:
أحدها: الاستعاذة الصادقة بالله من شر حاسد إذا حسد، ومَن استعاذ بالله صادقًا لاجئًا، أعاذه.
ثانيها: تقوى الله وحفظه في حدوده، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((احفظ الله يحفظْك)).
ثالثها: التوبة الصادقة من الذنوب، التي من أضرارها تسليط الحاسد.
رابعها: الصبر على عدوه، وألا يشاوره ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، بل يستعين بالله.
خامسها: قوة التوكُّل على الله، والتحصُّن بملازمة ذكره.
سادسها: فراغ القلب مِن الاشتغال بالحاسِد والتفَكُّر به، بل يقتلعه مِنْ قلبه ولسانه، ويجعله نسيًا منسيًّا، فيمحوه مِن قلبه، ولا يخاف منه، ولا يطرأ له على بال.
سابعها: الإقبال على الله بقُوة محبته، والإخلاص له، والإنابة إليه، والضراعة إليه وحده.
ثامنها: الصدَقة والإحسان العام غاية الإمكان؛ فإنَّ لذلك تأثيرًا عجِيبًا في دَفْع البلايا والكرُبات عمومًا.
تاسعها: الإحسان إلى الحاسد ومهاداته بما يطفئ حسده الغالي في صدره، وهذا شاقٌّ على النفوس، والله المستعان.
[1] أخرجه ابن ماجه برقم: (4263) في الزهد، باب: الحسد، وفي إسناده عيسى بن أبي عيسى الحناط.
أقوال العلماء على ضعفه؛ بل على ترك حديثه، كما في تهذيب التهذيب: (8/ 234) وفي ذلك قول ابن حبان: كان سيئ الفهم والحفظ، كثير الوهم، فاحش الخطأ، استحق التَّرْك لكَثْرته، المجروحين: (2/ 117).
وقال عمرو بن علي: متروك الحديث، ضعيف الحديث جدًّا، التهذيب، الموضع السابق، وقد ذكر ابن عدي حديث الحناط في ترجمته ضمن عدد من أحاديثه وقال عقبها: "ولعيسى غير ما ذكرت في الحديث، وأحاديثه لا يتابع عليها متنًا ولا سندًا"؛ الكامل: (5/ 247، 248).
وإلى ضعف الحديث أشار الشيخ ناصر رحمه الله كما في السلسلة الضعيفة برقم: (1901).
[2] أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، (1/ 165)، والترمذي برقم: (2510) في صفة القيامة، باب: رقم: (56) في حديث الزبير بن العوام، واختلف فيه على يعيش فمرة يروى عنه عن الزبير من غير واسطة كما عند أحمد: (1/ 165)، ومرة عنه عن مولى الزبير عن الزبير كما عندهما، ومرة عنه عن مولى الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير ذلك الزبير كما أشار إليه الترمذي، وجميع هذه الطرق ضعيفة لما يلي:
الأول: لانقطاعه؛ لأن فيه يعيش وهو ابن الوليد بن هشام: ثقة، لم يدرك الزبير بن العوام، كما أشار إلى ذلك أحمد شاكر في تحقيقه للمسند برقم: (1412).
أما الثاني: فضعيف لجهالة مولى الزبير، ذكره ابن حجر في المبهمات في تهذيب التهذيب: (2/ 391)، وبذلك أعله ابن أبي حاتم نقلاً عن أبي زرعة كما أشار إليه الشيخ ناصر في "الإرواء" (3/ 238).
وأما الثالث: فإضافة إلى جهالة مولى الزبير، فإنه مرسَل لإسقاط الزبير.
وبهذا يعلم ضعف الحديث لضَعْف طرقه وعدم قيامها للاحتجاج أو شد بعضها بعضًا.
وفي النهي عن الحسد أحاديث تُغني عن هذا الضعيف، فلْتراجع في مظانِّها.