لو أن قبورا تهب لنا ساكنيها فنجعل سكناهم في سويداء القلوب
أليمة هي الذكرى حين تجتاح ثنايا مخيلاتنا فتبعثر الماضي وتنثر حطامه في جنبات العقل ..
في كل زاوية صور أخيلة وأطياف تتراءى ..
وفي سمع الآذان صدى أصوات كانت تهواها وتفرح بها كنشيد عذب يتردد ..
حين تنطوي في مكان هناك ..
تجد الذكرى قد اجتاحت كيانك ..
قد تسيل دموعا من عينيك ..
تجعلك كالطفل الصغير يتمنى أن يرتمي في أحضان أمه فرحا ..
لكنه ضل الطريق وارتمى في أحشاء الذكرى دامعا متألما
أليمة أنت يا ذكرى .. تعذبين ولا تبالين ..
تنبشين الماضي كأنه واقع معيش ..
تمطرين من الأجفان بدمعك على تلك الخدود فلا تقوى يد على أن تمتد فتمنع غرقا أصاب الوجنات
ربما هو ذات المكان .. ولكنه زمان مختلف
أمس كانا يتبادلان الضحكات والهمسات .. لكنهما الآن .....
رفقا أيها الذكرى ألا فانسي واطرحي عنك الآلام !
ولكنك عبثا تحاول وتتنَأْنَأَ قواك .. وسرعان ما تشتعل نار الذكرى ..
ويتفجر بركان نبضك .. وتنبجس شلالات أوجاعك .. وترتفع حرارة مشاعرك
فتعاودك الدموع بقلب أليم فيختفي بؤبؤ عينيك خلف سيلها
وتجتاحك قاسيةً كلمات : إن قبرا قد ضم أضلاعهم ..وترابا قد أحاط أجسادهم .. فصاروا الآن في برزخ ربهم
علام تلك الأحاسيس تخترق جسدك ؟!
هي صفاتهم كالمطر القعيث سرقت جفاف أفكارك
إن كنت شكوت فهم يسمعون .. وإن تألمت كانوا يهوّنون .. وإن غبت يسألون ..
وإن تعثرت يوما فأياديهم تتسارع إليك لتأخذ بيدك وتشد عليها ..
إن استنصحتهم ينصحون .. يحبون لك الخير كما يحبونه لأنفسهم
طيب أخلاقهم يطرقك خجلا وحياء
صدق أخوتهم .. جميل سيرتهم .. حسن تدينهم .. عظيم فعالهم
هم لوحة رسمت في سواد عينيك لا تمحوها الأيام .. هم ذاكرة طبعت على جدران قلبك
هم أنت كلما خطوت خطوا وجدتهم في داخل وجدانك
لو غرد عصفور نافذته لخلته يحدثك بأخبارهم .. ويُهَدْهِدُك حتى تنام هانئا على سمع أحوالكم ..
حتى إذا رقدت زاروك في منامك
لا ترى تلك الصفات في سواهم .. كأنما كنت أنت راسمها ومنتقيها
كانت تجتاحك كل خطوب الدنيا ويقوم عليك كل أهلها .. كل يد تمتد إليك تريد منك نيلا إلا يدهم البيضاء كانت تذود عنك
ما كنت لتأنس بسواهم .. وتحاول سد الفراغ بعدهم فلا تنجح
كانوا دثارك إذا تسللت رياح البرد ورقدت بين ضلوعك
في كل شهيق تدخل أنسام ذكراهم لتملأ صدرك وتؤنس وحدة خفقاته
في كل شدة تذكرهم فتقول : كان لي يوما إخوة يعينون فمن الآن يعين ؟!
يغدقون طيبة وحنانا إذ يقسو الناس .. هم عون على النائبات وفرج عند الضائقات ..
هم من هم كيف أكتبهم وبأي لفظ أصف
كانوا في العروق دما يرويها فلما غادروها اقفرّت عطشا
كانوا نياط القلب فلما ارتحلوا صاروا وترا يعزف عليه آلامه
فلو أن قبورا تهب لنا ساكنيها فنجعل سكناهم في سويداء القلوب
بيد أنه قدر الله لا نملك بعده إلا دعوة صالحة طيبة تغسل كل الأحزان
وتجفف الدموع وتريح القلب والفؤاد
وتداوي علة .. وترسم بسمة من رحم الآلام وعلى عتبات مرافيء الوداع :
اللهم ارحمهم واجمعنا بهم في فردوسك الأعلى