ضرب لنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه خير مثل على الصداقة وحسن الصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يجمع بينهما الارتباط النفسي والمصيري الذي اقتضته هذه الصحبة الفريدة، فنجد أبا بكر يعيش مع صديقه وحبيبه الرسول صلى الله عليه وسلم الحلو والمر، والسهل والصعب، والغنى والفقر، والأمن والخوف، قال تعالى عن الصديق رضي الله عنه: “إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِن اللهَ مَعَنَا” (التوبة:40).
ذلك ان أعظمَ ما يعين المسلم على تحقيق التقوى والاستقامة على نهج الحق والهدى، مصاحبةُ الأخيار، ومصافاةُ الأبرار، والبعدُ عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار، لأن الإنسان بطبعه وبحكم بشريته يتأثر بصفيه وجليسه، ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرءُ إنما توزن أخلاقه وتُعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه، كما قال عليه الصلاة والسلام: “الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه أبو داود والترمذيُ بإسناد صحيح) ورضي الله عن ابن مسعود يوم قال: “ما من شيء أدل على شيء من الصاحب على الصاحب” ومن كلام بعض أهل الحكمة “يُظَنُ بالمرء ما يظن بقرينه” فلا غروَ حينئذٍ أن يُعنى الإسلام بشأن الصحبةِ والمجالسة أيما عناية، ويوليها بالغ الرعاية، حيث وجه رسول الهدى كلَ فرد من أفراد الأمة إلى العنايةِ باختيار الجلساء الصالحين، واصطفاء الرفقاء المتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: “لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقي” رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن.
الجليس الصالح
إن الصحبة من المؤثرات الأساسية والمهمة في تكوين الشخصية ورسم معالم الطريق.. فإن كانت صحبة أخيارٍ أفاضت على الأصحاب كل خير، وإن كانت صحبة أشرار فمن المحتم أنها ستترك بصمات الشر في حياة هؤلاء جميعا.
وليس أدل على ذلك مما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أنْ يُحذيَك، وإما أنْ تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة” (رواه البخاري).
ولأهمية الصحبة أو العشرة أو الأخوة، فقد اختصها رسولنا صلى الله عليه وسلم بكثيرٍ من أحاديثه الشريفة التي ورد ذكرها في كل كتب ومصنفات الحديث والسنة النبويتين، كما أفرد لها علماء السلف والخلف المؤلفات والكتب، تأكيداً لأهميتها في عملية الهدم والبناء، وفي الأمثال: “قل لي من تعاشر أقل لك من أنت”.
والصحبة كالبيئة، إما أن تكون ملوثةً أو تكون نظيفة.. فمن عاش في بيئةٍ ملوثةٍ ناله نصيبٌ وافرٌ من الأمراض والأوبئة المهلكة، أما من حرص على العيش في بيئةٍ نظيفةٍ فسيبقى في منأى عن كل ذلك، والغريب أن يختار الإنسان ما يهلكه ويشقيه، وصدق أنسٌ رضي الله عنه حيث يقول: “عليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم، فإنهم زينةٌ في الرخاء، وعُدةٌ في البلاء”. وقال رجلٌ لداود الطائيّ: أوصني. قال: “اصحب أهل التقوى، فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة”.
مرآة النفس
والصاحب أشبه ما يكون بمرآة النفس، تكشف محاسنها ومساوئها، وقبحها وجمالها، وبقدر ما تكون نظيفةً صافيةً بقدر ما تعكس صورة صاحبها نقيةً من غير غش أو “رتوش” مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه” رواه البخاري.
والصحبة الصالحة صمام أمان المتصاحبين، يعين بعضهم بعضاً على شؤون الدنيا والدين، فعن مالك بن دينار أنه قال لختنه (أي صهره): “يا مغيرة، انظر كل أخٍ لك، وصاحبٍ لك، وصديقٍ لك، لا تستفيد في دينك منه خيرا، فانبذ عنك صحبته، فإنما ذلك لك عدوّ”.
ولله در القائل:
فصاحب تقيا عالما تنتفع به
فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب
وإياك والفساق لا تصحبنهم
فقربهم يعدي وهذا مجرب
فإنا رأينا المرء يسرق طبعه
من الإلف ثم الشر للناس أغلب
كما قيل طين لاصق أو مؤثر
كذا دود مرج خضرة منه يكسب
وجانب ذوي الأوزار لا تقربنهم
فقربهم يردي وللعرض يسلب
وتزداد قوة الصداقة نتيجة لخمسة عوامل أهمها زيادة التفاعل بين أعضاء الجماعة فكلما كانت جماعة الأصدقاء متفاعلة ومتعاونة زادت قوة الصداقة بينهم واتحدت قلوبهم ومشاعرهم على أن الأهداف التي يسعون لها مشتركة بينهم وكذلك إشباع الحاجات الفردية للأعضاء من حيث الانتماء والجوانب الاجتماعية والنفسية وزيادة المكانة المدركة للجماعة من خلال افتخارهم بمجموعتهم ومحافظتهم عليها والدفاع عنها وعن القيم والأخلاق التي تمثلها.
لذا.. فإن من الحزم والرشاد، ورجاحةِ العقل وحصافةِ الرأي، ألا يُجالسَ المرء إلا من يرى في مجالسته ومؤاخاتِه النفعَ له في أمر دينه ودنياه، وإن خيرَ الأصحاب لصاحبه، وأنفعَ الجلساءِ لجليسه من كان ذا بِر وتُقى، ومروءةٍ ونُهى، ومكارمَ أخلاق، ومحاسنَ آداب، وجميلِ عوائد، مع صفاءِ سريرة، ونفسٍ أبية، وهمّةٍ عالية.... وتكمل صفاته ويَجل قدره حين يكونُ من أهل العلم والأدب، والفقه والحكمة.
ولنتأمل في حال من ابتلوا بإدمان المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، واكتسابِ الأموال المحرمة من ربا ورشوةٍ وغيرهما من المكاسب الخبيثة، وما هم عليه من سوءِ الحال في أنفسهم وأهليهم، وما كان لهم من أسوأِ الأثر في من يخالطهم ويصافيهم، فمن شقاء المرء أن يُجالس أمثال هؤلاء الذين ليس في صحبتهم سِوى الحسرة والندامة ؛ لأنهم ربما أفسدوا عليه دينه وأخلاقه، حتى يخسر دنياه وآخرته، وذلك هو الخسران المبين، والغبنُ الفاحش “وَيَوْمَ يَعَض الظالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتخَذْتُ مَعَ الرسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَني لَمْ أَتخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلنِي عَنْ الذكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً” (الفرقان:27 29)
واجبات الصديق
ومن واجب الصديق على صديقه أن يحفظ غيبته، ويهب لنجدته ويرعى مصالحه، ويقدم له النصيحة في لطف وكياسة، كما أن من واجب الصداقة أن يكون الإنسان سهلاً في محاسبته لأصدقائه، ويتجاوز عما قد يقع منهم أحيانًا من خطأ غير مقصود، ويقبل عذرهم عن خطأ مقصود حتى يحافظ بذلك على بقاء محبتهم ولا يفرقهم من حوله.
والقرين يؤثر في عقيدة قرينه، وفي قناعاته الفكرية فكم من صديق جر الويلات على صديقه، وكم من قرين كان سببًا في انحراف قرينه وعندها لا ينفع الندم، وانظر إلى هذا المشهد البليغ الذي جسده لنا القرآن.
“وَيَوْمَ يَعَض الظالِمُ عَلَى يَدَيْهِ” فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها، إنما هو يداول بين هذه وتلك أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيمًا “يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتخَذْتُ مَعَ الرسُولِ سَبِيلاً” فسلكت طريقه ولم أفارقه ولم أضل عنه.
“يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتخِذْ فُلاناً خَلِيلاً”. وفلانًا بهذا التجهيل يشمل كل صاحب سوء يصد عن سبيل الرسول ويضل عن ذكر الله “لَقَدْ أَضَلنِي عَنِ الذكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي” فلقد كان شيطانًا يضل أو كان عونًا للشيطان “وَكَانَ الشيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً” يقوده إلى مواقف الخذلان. (في ظلال القرآن سيد قطب ج 5).
أمر إلهي
قال تعالى “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (الكهف:28).
فأمر تعالى بصحبة الأخيار وملازمتهم، ونهى عن صحبة الأشرار: “وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا” (الكهف: 28) وهذه مسألة عظيمة من مسائل هذه الحياة؛ فإن الإنسان لا بد له من صديق وصاحب، ولا بد له من قوم يأوي إليهم، ويكون معهم وقال الله تعالى: “الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إِلا الْمُتقِينَ” (الزخرف:67)
وقال صلى الله عليه وسلم: “المرء مع مَن أَحَب”. قال بعض السلف: لقد عظُمت منزلة الصَدِيق عند أهل النار، قال الله تعالى: “فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ” (الشعراء:100-101).
وقال بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله”: انظروا إلى فرعون مع هامان، أضل هذا بهذا، وأخذ هذا من عزة هذا، وأعان بعضهم بعضاً على الكفر واستعباد البشر. وجليس الخير مفيد دائماً وأبداً، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل الجليس الصالح كمثل العَطار، إن لم يعطِك من عطره أصابك من ريحه” وهذا هو الفرق بينه وبين نافخ الكير، الذي يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحاً سيئة.
وقد أوصى احد الصالحين ولده لما حضرته الوفاة، فقال: “يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، واصحب من إذا مددت يدك للخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها”. وقال بعض السلف: “عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء”. فالأخيار الأبرار الأتقياء إذا وُجدوا في مجتمع جذبوا أشباههم أو انجذبوا إليهم وسرى تيار المحبة بينهم. والصاحب ساحب.
لو أن مؤمناً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة منافق ومؤمنٌ واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة مؤمن ومنافقٌ واحد فإنه يمشي حتى يجلس إليه، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان في الطيران إلا وبينهما مناسبة.
إن الله تعالى حذرنا من أهل السوء، فقال: “وَإِذَا رَأَيْتَ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِما يُنْسِيَنكَ الشيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظالِمِينَ” (الأنعام:68)
منقـــول