المحكمات وأثرها في الخطاب الدعوي
تمهيد:
ما عوامل انحراف النصارى عن طريق نبي الله عيسى عليه السلام؟
نستطيع الإجابة عن هذا السؤال بجواب مختصر وآخر مفصل مطول.
فأما الجواب المختصر: فمن أهم أسباب انحرافهم تخلِّيهم عن المحكمات التي بيَّنها لهم المسيح عليه السلام، وانصياعهم وراء المتشابهات والشبهات التي وفدت إليهم من الحضارات المجاورة لهم.
وأما الجواب المفصل، فقد دبَّ الضلال والزيغ عن الحق في الأمم عامة وفي أتباع عيسى خاصة بما دخل عليهم من المتشابهات من الأمم والحضارات المجاورة، ذلك أن عيسى عليه السلام جاء بالمحكمات المعروفة في كل دين من الأمر بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده وغيرها[1]، وهذا ما أكد حين شكك في ذلك، فقال: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 117]، فهنا "شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس، فعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه، هو أعظم وصية..."[2].
ولكن أتباعه لم يكونوا من الذين جعلوا المحكمات أمًّا لهم ينتهجونه في حياتهم ويردون إليه ما اشتبه عليهم في أمر دينهم، و﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، ولكن على العكس اتكؤوا على المتشابهات وتعاموا عن المحكم منها، يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم...: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظًا لهم فيه شبهة، تمسكوا به وحملوه على مذهبهم، وإن لم يكن دليلًا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوِّضوها، وإما أن يتأوَّلوها"[3].
وما بيَّنه ابن تيمية (728) رحمه الله هو ما اعترف به باحثو مقارنة الأديان في العصر الحاضر، من أن ضلالهم كان بسبب انجرارهم وراء المتشابهات، ولهثهم وراء ضلالات الأمم الأخرى، يقول (إرنست رينان): "إن الدراسات التاريخية للمسيحية وأصولها، تثبت أن كل ما ليس له أصل في الإنجيل مقتبس من أسرار الوثنية"[4]، ويقول نايتون: "ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن ما يعرف بالأسرار الدينية في المسيحية مستوحى من الأديان الوثنية القديمة"[5].
ويقول: "إننا لا نستطيع أن نفهم مسحيتنا حق الفهم إذا لم نعرف جذورها الوثنية، فقد كان للوثنية قسط وافر في تطور الدين المسيحي، وهو قسط غير مباشر ولا منظور إذا صح أن لليهودية تأثيرًا على المسيحية، وكانت أساسًا جوهريًّا للنظرة المسيحية؛ فإن علينا أن ننبه أن اليهودية نفسها أصيبت بالتأثيرات الوثنية في فارس وبابل وخضعت لنفوذهما"[6].
إن هذه الجولة السريعة مع تاريخ النصارى وما حصل لهم بسبب ابتعادهم عن المحكمات، ولَهْثهم وراء المتشابهات من بُطلان دينهم الذي أنزله الله؛ ليعطينا درسًا هامًّا في أهمية التمسك بالمحكمات، والبدار البدار إلى توظيفها في سبل الدعوة ووسائلها، والفرار كل الفرار من المتشابهات.
أهمية البدء بالمحكمات في الخطاب الدعوي:
والبدء في الدعوة بالمحكمات هو ما جاء به الوحي المعصوم؛ حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن للدعوة إلى دين الله بأن يبدأ بالمحكمات؛ كما في الحديث المتفق عليه: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتَهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخَذ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجابٌ"[7].
فقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بالبدء بالمحكمات وأصول الدين العظام والدعوة إليها، وعدم الانتقال إلى غيرها حتى ترسخ وتتجذر في الناس، مؤكدًا أهميتها ومشيرًا إلى أثرها في الخطاب الدعوي في كل مجتمع، فبها يكون التماسك، وبها تتحقق الوحدة للمجتمع المسلم، وبها يتوقى المسلم من الأفكار المضلة والشبهات الخاطفة.
فللمحكمات أثرٌ كبير عند توظيفها في الخطاب الدعوي، ويمكن أن نعدد من الآثار:
1. سرعة فهم واستيعاب الناس لها يؤصلها في المجتمع:
ذلك أن عامة الناس لا يقوون على الغوص في دقائق الأدلة وجليل العلل، ولكن المحكمات أدلتها فطرية ظاهرة وأحكامها واضحة معلومة لكل أحد، فلا أحد ينكرها ولا أحد يحرف شيئًا من أحكامها بعكس غيرها من المتشابهات التي يتمسك بها أهل الزيغ والضلال؛ ولذلك أمر الله تعالى بالرد إليها خاصة في الفتن وفي غمرة الشبه والمضلات، يقول الإمام الطبري (310) رحمه الله: "المحكمات قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنَّ وأدلتهنَّ على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك"[8]، وقالابن كثير (774) رحمه الله مجليًا وضوحها: "بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس"[9]، وقال الشوكاني رحمه الله: "الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره"[10].
2. قبول الناس لها دون تشويش:
وهذا من أهم آثار توظيفها في الخطاب الدعوي؛ فالأمور المحكمة لكونها محكمة، وحقًّا يقر بها جميع البشر ويُثنَى عليها؛ كما يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقًّا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم"[11]، ولما كانت المحكمات بهذه الحال كان على أهل الدعوة إلى دين الله تكثيف الجهود حول ترسيخ المحكمات؛ إذ هي الملاذ والملجأ الذي يثبت الناس على دين الله على مرِّ العصور وفي مختلف الأحوال والأماكن، ومهما تنوعت الأعراق والطبائع.
3. أنها كافية للناس هادية لهم في أبواب الزيغ والضلال:
ذلك أنها تشتمل على عماد الدين، وفيها ما يحتاجه الناس من الدين، فما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم بيَّنه الإسلام خير بيان، ولم يترك الناس هملًا بلا دليل ولا بصيرة، بل أكمل الله الدين وأتم بيان الحق؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وفي كفاية المحكمات يقول الإمام الطبري (310) رحمه الله: "وهن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدين، ففيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم"[12].
4. أنها تثبت قلوب المؤمنين على الدين:
لأن المحكمات ليس فيها شبهة وليس فيها إشكال، فالمحكم كما يقول الراغب الأصفهاني: "ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى"[13]، بل على العكس فطرية واضحة، فيسمعها المسلم فيسلم بها، ويُقر بها، ويزداد بها إيمانًا؛ فالأمر بالصبر والصلاة والصدق وغيرها من الأصول المحكمة في أبواب العبادات، تثبت المؤمنين بلا شك، ولذلك أمر الله بالاستعانة بها خاصة، فقال: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
5. أنها لا تتغير على مر العصور والأزمان:
فالأمور محكمة من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يوم الناس هذا، فالله ربنا ورب السماوات والأرض، لم يتغير هذا الأمر لا في قديم ولا حديث، والأمر بالصلاة ومواقيتها وركعاتها هي كما هي، لا يختلف في ذلك اثنان، ومن هنا فإن توظيف هذه المحكمات في الدعوة له أثره، سواء على الأفراد وثباتهم على دينهم أو على المجتمعات وعصمتهم من الزيغ، ولذا نجد وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالمحكمات في الكتاب والسنة التي كانت سائدة في عهده وعهد الخلفاء الراشدين[14].
6. أنها الملاذ الآمن في المضلات والفتن:
فإن الإنسان بين شدة ورخاء في دينه ودنياه، وقد تعصف بالمجتمعات المصائب في الدين كما تعصف بهم في دنياهم، وهنا يبحثون عن الملاذ الذي يلوذون إليه؛ فيأتي دور الدعاة والعلماء بتوجيه الناس إلى المحكمات وترسيخها وبيان أهميتها وضرورة التمسك بها للحفاظ على الدين، ومن هنا قال الله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، وبيَّن أن "من رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس"؛ كما يقول ابن كثير (774) رحمه الله[15].
7. أنها تحقق الطُّمأنينة والاستقرار وتعصم من زيغ الفكر:
فالمحكمات لها أثرها الكبير في استقرار النفوس، وفي الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي زاغت فيها عقول الفلاسفة والمفكرين، رغم بحثهم وإفنائهم حياتهم كله في ذلك، والمسلم بفضل المحكمات ينعم بالاستقرار والطمأنينة في هذه الأسئلة الملحة على النفس، فيعلم أن الله أوجده لعبادته سبحانه وتعالى، وأنه في آخر المطاف؛ إما إلى جنة أو نار، وهذه كلها محكمات في الإسلام لها أدلتها وحججها وبراهينها، ورسوخها وثباتها ويقينيتها، وهو ما يجعل الدعوة إليها لازمًا والالتفاف حولها ضرورة[16].
8. أنها تحرر عقول الناس من الواردات الباطلة والخواطر الوهمية:
فالإنسان قد ترد عليه أفكار وأوهام سوفسطائية لا خطام لها ولا زمام، ولا حجة عليها ولا برهان، وإنما مجرد ظنون وأوهام، ولا ينفك المرء عن هذه الأوهام والظنون إلا بمنظومة فكرية متكاملة تعصمه من الانجرار خلفها، ولا شك أن التمسك بالمحكمات والدعوة إليها وترسيخها، له دورُه في وقاية الناس من الانزلاق في مزالق الخواطر الوهمية الباطلة؛ إذ من عرف المحكمات وفَقِه فقهها، وبنى عقله وفكره عليها، وردَّ كلَّ ما يرد على عقله إليها، نَعِمَ بالطُّمأنينة واليقين، وسلم من الحيرة والشك وسبل الحائرين[17].
9. أنها تحافظ على وحدة المجتمع وتعصمه من التشرذم والتفرق:
فالتمسك بالمحكمات من أهم ما يحقِّق وَحدة المجتمع، ويحفظها من التفرق، وهي "أساس متين لوحدة المجتمع صغيرًا كان أم كبيرًا، كما أنها جامعة للمسلمين في كل زمان ومكان على اختلاف ألوانهم وأجناسهم إذا صدقوا في العمل بها قوام المجتمع الإسلامي، ولهذا ربط الله بها الفلاح والصلاح، وحذَّر المسلمين من التفرق عنها"[18].
الخاتمة:
قبل أن نضع نقطة النهاية لهذا المقال، نؤكد أن الدعوة إلى المحكمات والبدء بها هو ما أوصى به الكتاب والسنة، وهو ما سار عليه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وهو ما يجب على أهل العلم والدعاة انتهاجه والالتفاف حوله في كل زمان ومكان؛ فهي تعصم المجتمع من الفتن والضلالات، وتحقق الطمأنينة في الأنفس والمجتمعات، وتعصم العقول من الزيغ والغوايات، ولا تتغير ولا تتبدل مهما اشتدت الأزمات.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزُقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.