السعادة في محاسبة النفس - الشيخ علي الحذيفي
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أحيا قلوب المؤمنين بالقرآن وبسنة سيد المرسلين، فلربنا الحمد والشكر على هذا الفضل المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا بهدي رسوله المُجتبى.
أيها المسلمون:
اعلموا أن فلاح المسلم وحسن عاقبته وسعادته في الدارين بمحاسبة نفسه بحملها على ما يُرضي الله تعالى، وإبعادها عما يُغضِب المولى - عز وجل -، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن تُوزَنوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر على الله".
أيها المسلمون:
كلنا يرى ويعلم ما نزل بالمسلمين من المصائب، وما حلَّ بهم من النَّكَبات، وما أصابهم من الشدائد العِظام في تاريخهم الحاضر، وسببُ ذلك من عند أنفسنا بالذنوب والمعاصي والتقصير في الواجبات والفرائض، كما قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21].
فربُّنا - عز وجل - يحب التوابين ويحب المتقين، ولله سنن يُجريها على خلقه بعدله وحكمته، لا يُحابي فيها أحدًا، قال الله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43]، وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123].
وقد وعدنا الله تعالى - ووعده الحق - بأنه لا يُعذِّب من آمَن وشكر، قال الله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].
قال المُفسِّرون: "لا يُعذِّبكم الله في الدنيا ولا في الآخرة إن شكرتم نعمه وعرفتم قدرها، وآمنتم بربكم بعمل الصالحات، وإنما يُعذِّب من كفر بربه فعمل السيئات ولم يقم بشكر النعم".
فهل بعد هذا كرم وعدل؟!
إذًا صلاح حال المسلمين في إصلاح ما بينهم وبين ربهم، وما يُؤتى الإنسان إلا من قِبَل نفسه، وإن استقامة أحوال المسلمين وثباتهم على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتولَّى الله بذلك أمورهم، ويُقيم أحوالهم على الوجوه الحسنة، ويدفع الله بذلك ضرر وكيد أعدائهم، كما قال - تبارك وتعالى -: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120].
ألا وإن الصلاة وتحقيق التوحيد لله رب العالمين يُصلِح الله بذلك الفرد والمجتمع، مع ما يتبع التوحيد والصلاة من أحكام الدين وتشريعه والدعوة إليه.
والصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وفي الحديث: «أول ما يُحاسَب عليه العبد الصلاة، فإن قُبِلت قُبِلت وسائر العمل، وإن رُدَّت رُدَّت وسائر العمل».
والصلاة زكاة البدن وزكاة الأعمال والأقوال والاعتقاد، ولا دين بلا صلاة، وقد فرضها الله تعالى في كل دينٍ شرَعه، وعلى كل أمة أرسل إليها رسولاً، ومنزلتها في الإسلام أعلى منزلةً، فرَضَها الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته بلا واسطة ليلة الإسراء والمعراج، وهي خمسٌ في العمل وخمسون صلاةً في الأجر.
وسرُّ نجاح المسلمين وسعادتهم في إقامتها، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
وإذا كان الخلل في الصلاة اختلَّت أمور الفرد والمجتمع، واعتبِر ذلك بحال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد أحسَنوا، فجزاهم الله إحسانًا.
والصلاة أقوالٌ وأفعالٌ مشروعة تُوجِب التحرِّي للسنة والإخلاص لله - عز وجل -، والاجتهاد في تحقيق شروطها، واستيفاء أركانها، والقيام بواجباتها، والاستكثار من المستحبات فيها، لتُرفَع إلى الرب - تبارك وتعالى -، وترفع صاحبها.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى الصلوات لوقتها، وأسبغ لها وضوءها، وأتمَّ لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجَت وهي بيضاء مُسفِرة، تقول: حفِظَك الله كما حفِظتَني، ومن صلَّى لغير وقتها، ولم يُسبِغ لها وضوءها، ولم يُتمَّ لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجَت وهي سوداء مُظلِمة، تقول: ضيَّعَك الله كما ضيَّعتَني، حتى إذا كانت حيث شاء الله لُفَّت كما يُلفُّ الثوب الخَلِق - أي: البالي -، ثم ضُرِب بها وجه صاحبها»؛ رواه الطبراني في "الأوسط".
وإذا كان التابعون يُكثِرون من سؤال الصحابة عن كيفية وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُشاهِدون صلاتهم التي صلَّوها مع خير البرية؛ بل الصحابة يسأل بعضهم بعضًا عن بعض صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعض أحكامها التي خفِيَت على السائل، ليقتدوا بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكاملة، امتثالاً لقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي».
إذا كانوا كذلك؛ فكيف بحالنا في هذا العصر مع البُعد عن عصر النبوة؟! لا شك أن الواجب علينا أعظم، والاجتهاد أشد في معرفة تفاصيل الصلاة وأركانها وواجباتها وسننها؛ لتكون وفق صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر الاستطاعة، لا سيَّما في هذا الزمان الذي دخل فيه على الصلاة غِيَرٌ وتقصير وإخلال إلا من حفظه الله تعالى فتمَّت صلاته.
قال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك - رضي الله عنه - بدمشق وهو يبكي، فقلتُ: له: ما يُبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَت"؛ رواه البخاري في "صحيحه".
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "ما أعرف شيئًا مما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: فالصلاة؟ قال: أليس قد صنعتم فيها ما صنعتم؟ "؛ رواه البخاري أيضًا.
فكيف لو رأى أنس - رضي الله عنه - حال كثير من المُصلِّين في زماننا.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وأنس - رضي الله عنه - تأخر حتى شاهد من إضاعة أركان الصلاة وأوقاتها وتسبيحها في الركوع والسجود وإتمام تكبيرات الانتقال فيها ما أنكره، وأخبر أن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه". اهـ كلامه.
ومع خفاء السنن في كثير من البلدان، وانتشار الجهل بالعلم الشرعي يدخل الخلل والتقصير في الصلاة، وإذا فُقِد الحرصُ على التعلُّم فلا تسأل عن ضياع الصلاة، ولو قُدِّر اختبارٌ للمُصلِّين في المساجد والبيوت والبوادي في العالم الإسلامي لكانت نتيجة الاختبار عدم إحسان كثيرٍ من المُصلِّين لصلاتهم؛ بل تقصيرهم في قراءة الفاتحة قراءةً صحيحة، وجهلهم بأركان الصلاة وواجباتها فضلاً عن سننها وأذكارها.
ومن استبعد قولي هذا فليُجرِّب بمُذاكرة من تيسَّر له من إخوانه المسلمين أحكام الصلاة، واستعراض ما يجب في الصلاة، وما لها من شروط، فإنه بتجربته سيقف على الحقيقة المُرَّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكيف لا نعتبِر ولا نتَّعِظ ولا نُحاسِب أنفسنا نحن المسلمين، ونُدرِك أن البلاء الذي نزل بنا، وتسلُّط أعدائنا علينا، وتفرُّقنا، واختلاف كلمتنا بسبب التقصير في الصلاة وغيرها من فرائض الإسلام، وقد قال ربنا - تبارك وتعالى -: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45].
فالصلاة التامة معونةٌ على أمور الدنيا والدين.
والخير في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ولكن المسلم يحتاج دائمًا إلى التذكير والتعلُّم والموعظة، وروح الصلاة هو الخشوع والطمأنينة في أركانها وأقوالها بلا عجلة ولا إسراع، وصحة الصلاة وكمالها ومدارها في كل قراءة وذكر وفعل بوزنها بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالموافق من الصلاة مقبولٌ مُضاعَفٌ لصاحبها مأجور، والمخالف لصلاة رسول الله مردودٌ وصاحبها مأزور.
والتطويل في الصلاة والتخفيف مردُّ ذلك إلى السنة، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "والعبادات يُرجع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوع في ذلك إلى عُرف الناس وعوائدهم في مُسمَّى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا، ولا ينضبط لما في فهم الناس من التفاوت، ولما فهِمَ بعض من نكَّس الله قلبه أن التخفيف المأمور به هو ما يمكن من التخفيف، واعتقد أن الصلاة كلما خُفِّفت وأوجِزت كانت أفضل، فصار كثيرٌ منهم يمُرُّ فيها مرَّ السهم". اهـ كلامه - رحمه الله -.
كما يرجع في التطويل والتخفيف الجائز إلى أهل العلم الراسخين من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة برغبة الجُهَّال وأقوال أهل الأهواء والكُسالى، قال قزَعة بن يحيى البصري: "رأيتُ أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قلتُ: إني أسألك عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كانت صلاة الظهر تُقام فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجَته، ثم يأتي أهلَه فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى، مما يُطوِّلها"؛ رواه مسلم في "صحيحه".
وعن أبي بَرْزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الصبح وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة"؛ رواه البخاري ومسلم.
وصلَّى الصدِّيق صلاة الفجر بالبقرة، فقيل له: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلَعَت لم تجِدنا غافلين.
وهذا إتقان وإحسانٌ وكمالٌ للصلاة.
وسبب خفَّة الصلاة عليهم مع طولها: اتصافهم بالهمة والعزم الصادق الذي تتطامَر وتتواضَع أمامه الجبال الشامخات.
الصفة الثانية: المحبة؛ فالمُحب لا يستطيل زمن محبوبه؛ بل يحب طول الوقت ليظفر به، وقد جُعِلت قُرَّة أعينهم في الصلاة، ولك عبرة - أيها المسلم - في التاجر لا يملُّ الوقوف، ولا يشعر بالسهر لحب المال، وتجارة الصحابة عبادة الله.
وفي هذا الزمان ضعُفَت الهمة وضعُفَت المحبة، فكانت صلاتنا دون صلاتهم، ولكن على الأئمة أن يُوفُّوا للناس صلاتهم، وأن يُسدِّدوا ويُقارِبوا بما لا يُخِلُّ بالصلاة وبما لا يُنقِص تمامها، وبما لا يشقُّ على المأمومين ويُعسِّر عليهم تنبيه الإمام إذا أخلَّ بشيءٍ من أفعال الصلاة وإعانته على الوفاء بأمانته بتذكيره بالنقص الذي يقع.
الأمر الثاني الذي يُصلِح الله به حال المسلمين: هو توحيد رب العالمين، فهو أساس الدين، وكل أركان الإسلام مبنية عليه، وكل عمل صالح تابع للتوحيد، فإن حقَّقه المسلم فطُوبى له.
وحقيقة التوحيد: توجُّه القلب إلى الله، وتعلُّقه بربه بالقصد والإرادة والمحبة والتوكل، وطلب النفع للخيرات، وسؤال الله بدفع الشرور والمكروهات، وإخلاص الدعاء لله، وكل رسولٍ بعثه الله بالتوحيد، وما وقع من التغيير والتبديل في شرائع الرسل قبلنا لم يقع ذلك إلا بعد نسيان التوحيد ووقوع الشرك المنافي لما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.