بـسم الله الرحـمن الـرحيم
من علامات أهمية موضوع ما وروده بكثرة في القرآن الكريم ، و موضوع الوحدة من الموضوعات التي حظيت باهتمام القرآن الكريم و كثرة وروده ، سواء كان ذلك نصا بالاسم أم بالمعنى ، كما لاقى هذا الموضوع رواجا كبيرا ، لاسيما في واقعنا المعاصر الذي يستشهد فيه الدعاة و العلماء بآيات الوحدة و معانيها ؛ لانتشال الأمة من وهدتها ، و إنقاذها من أزمتها ، في محاولة للم الشمل ، و رأب الصدع ، و إعادة الأمة إلى وحدتها و قوتها ، و تسييرها على صراط دينها القويم .
و ما من شك في أن تحقيق وحدة الأمة من المقاصد العظيمة لهذا الدين ؛ فقد شرع لها الإسلام ما يوجدها و يزكيها ، و حدد لها ما يبقيها و يقويها ، و بين لها ما يتعاهدها و ينميها، كما حرم كل شيء يأتي عليها ، أو ينقضها ، أو يوهنها ، أو يضعفها ، أو يعمل على أن تتنكب الأمة صراط القوة ، و طريق العزة ، و سبيل الوحدة بين المؤمنين .
فكيف ورد الحديث عن الوحدة في القرآن الكريم ؟ و ما هي جوانب الموضوع التي جاءت بها آياته ؟ و ماذا شرع الإسلام لوجودها و بقائها ؟ و ماذا حرم مما ينقضها أو يضعفها ؟ و ما هي الوسائل و الطرق التي توصل لها ؟ و ماذا عن التدابير الوقائية من فقدها و ضياعها ؟ هذا ما نجيب عنه في السطور التالية .
أولا : الأمر بها صراحة
فقد أمر الله أمة الإسلام في القرآن أمرا صريحا أن تتحد و تقوى ، و الأمر يفيد الوجوب كما يقول الأصوليون ، فقال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [آل عمران : 103] ، و قال : ( و أن هـذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) [الأنعام : 153] ، و قال : ( فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى و نعم النصير) [الحج : 78].
ثانيا : النهي عن الفرقة و الاختلاف
و مع أن الآيات السابقة تضمنت النهي عن الفرقة مع الأمر بالوحدة ، فإن هناك آيات نهت أيضا عن الفرقة ، فقال تعالى : ( و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين ) [الأنفال : 46] ، و قال: ( و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) [آل عمران : 105] ، و قال : ( و لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) [الروم: 31-32] ، و قال : ( إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) [الأنعام : 159] ، و لا يخفى ما فيه من تنفير عن التفرق و التشيع و التحزب الممقوت .
ثالثا : صور وحدة الأمة
قد ورد في القرآن الكريم بعض الصور التي يحب الله تعالى أن يكون المؤمنون فيها صفا واحدا ، و يدا واحدة ، و أمة واحدة ، و من هذه الصور :
1 - حال الأمة بشكل عام : ( و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون ) [المؤمنون: 52] ، و مثلها آية رقم "92" من سورة الأنبياء .
2 - في النفير العام : ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) [النساء : 71] .
3 - في القتال : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) [الصف : 4] ، و قال: ( و قاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة و اعلموا أن الله مع المتقين ) [التوبة : 36] .
4 - هذا بالإضافة إلى طريقة أداء النسك في شعائر العبادات الكبرى من صلاة ، و صيام ، و حج ، فنسكها يؤدى بطريقة واحدة ، ترى فيها القوة و الوحدة و التماسك ؛ و لهذا نرى فيها الأمر بصيغة الجمع : ( و أقيموا الصلاة ) ، ( و آتوا الزكاة ) ، وكذلك في أوامر أخرى كثيرة .
رابعا : أسباب الفرقة
وردت في القرآن الكريم آيات تبين أسباب التنكب عن طريق الوحدة ، و الوقوع في براثن الفرقة و الخلاف ، و من ذلك :
1 - نزغ الشيطان و اتباعه : ** و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ** [الإسراء: 53] .
2 - المجادلة بغير علم : ( و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير ) [الحج : 8] ، ( و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولـئك كان عنه مسؤولا ) [الإسراء : 36] ، ( و من الناس من يجادل في الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد ) [الحج : 3] ، و في الجدال بغير علم بث للتعصب ، و زرع للكراهية و البغضاء .
3 - إثارة الخصم ، قال تعالى : ( و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) [الأنعام : 108] ، و إثارة الخصم تؤدي إلى الكبر و العناد ، و تهديد المجتمع بأمراض اجتماعية خطيرة .
4 - التنازع و العصيان : ( حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين ) [آل عمران : 152] ، و قال: ( و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم ) [الأنفال : 46] ، فانظر كيف كان الفشل و ذهاب الريح نتيجة حتمية للتنازع و الاختلاف !
خامسا: أسباب الوحدة
و كما بين القرآن الكريم أسباب الفرقة فقد رسم معالم الوحدة و بين الطريق إليها ، فمن أسباب الوحدة :
1 - طاعة الله و رسوله : ( قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و إن تطيعوه تهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين ) [النور: 54] ، و لا شك أن من معاني الهداية : الهداية إلى طريق الوحدة و التمسك بها ، و قال سبحانه : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون ) [النور : 51] .
2 - التحاكم إلى القرآن و السنة : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا ) [النساء : 59] ، و قال : ( و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت و إليه أنيب ) [الشورى : 10] .
3 - التحدث بالقول الأحسن ، و ليس الحسن فقط ، فإن كان هناك خياران للكلام : حسن و أحسن ، وجب على المسلم أن يتخير الأحسن و يترك الحسن ، و لا يخفى ما في هذا من عمل على الوحدة و نبذ للفرقة ، و دحض لأحابيل الشيطان ( و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) [الإسراء : 53] ، و قال : ( قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها أذى و الله غني حليم ) [البقرة : 263] .
4 - الجدال بالتي هي أحسن ، خاصة مع المخالفين : ( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون ) [العنكبوت : 46] .
5 - الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين ) [النحل : 125] ، و قال : (يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و ما يذكر إلا أولوا الألباب ) [البقرة : 269] ، فالدعوة من خلال الحكمة يكون بتقدير الأمور تقديرا حسنا ، فيراعي الأولويات ، و يقدم ما من حقه التقديم ، و يؤخر ما من حقه التأخير ، و الموعظة الحسنة لترقيق القلوب ، فالحكمة للعقل و الموعظة للقلب ، و هذا من شأنه أن يحقق الوحدة .
6 - الإصلاح بين الإخوة : ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم و اتقوا الله لعلكم ترحمون ) [الحجرات : 10] ، و فيه من تقوية نسيج الصف المسلم الاجتماعي ما لا يخفى .
7 - التبين و التحقق من الادعاءات و الأخبار : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) [الحجرات : 6] ، و عدم التبين يؤدي إلى اتهام الآخرين بما ليس فيهم ؛ ما يؤدي إلى حالة من البلبلة و الفتنة في المجتمع ، و في قصة الإفك خير شاهد .
8 - الإعراض عن اللغو : ( و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه و قالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) [القصص : 55] ، و قال : ( و الذين لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مروا كراما ) [الفرقان : 72] ، ففضول الكلام و كثرته تؤدي إلى الوقوع في الأخطاء الأخلاقية و الاجتماعية.
9 - العفو و التسامي عن الجاهلين : ( خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين ) [الأعراف : 199] ، و قال: ( و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )[الفرقان : 63] ، فالاشتباك مع الجاهلين يعطل عن إنجاز المهام ، و الوقوع في الشقاق و التنازع .
10- دفع السيئة بالتي هي أحسن : ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ) [المؤمنون : 96] ، و قال : ( و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم ) [فصلت : 34] ، و بين جزاء هذا السلوك في الآخرة فقال : ( و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ) [الرعد: 22-23] ، و قال : ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرؤون بالحسنة السيئة و مما رزقناهم ينفقون ) [القصص : 54] .
11 - الكفر بالطاغوت و الإيمان بالله : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و الله سميع عليم ) [البقرة : 256] .
و بهذا يكون القرآن قد رسم صورة متكاملة عن الوحدة؛ فقد أمر بها ، و نهى عن ضدها ، و بين أسباب الفرقة ، و رسم الطريق للوحدة و سبل الوصول إليها .
و إذا كنا ذكرنا أربعة أسباب للفرقة و الاختلاف ، فقد ذكرنا أحد عشر سببا للوحدة و التماسك و التلاحم ، و فيه إشارة إلى أن القرآن ركز على الأمر الإيجابي ، و هو ذكر أسباب الوحدة دون التركيز أو التفصيل في الأمر السلبي ، و هو أسباب الفرقة .
و فيه درس للدعاة و المصلحين أن يزرعوا في الناس الخير و الرشاد و الوحدة ، و سوف يتولى الخير تلقائيا مطاردة الشر ، و يعمل الرشاد على نفي الغي ، و تقوم الوحدة بالقضاء على النزاع و الفرقة ؛ متى زرعنا هذه الإيجابيات بفهم و علم و حكمة ، و يقين و تجرد و إخلاص .
بقلم الدكتور : و صفي عاشور أبو زيد