سُئــل شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف) ما المراد بهذه السبعة ؟ و هل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع و عاصم و غيرهما هي الأحرف السبعة ، أو واحد منها ؟ و ما السببب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟ و هل تجوز القراءة برواية الأعمش و ابن مُحيْصِن و غيرهما من القراءات الشاذة أم لا ؟ و إذا جازت القراءة بها فهل تجوز الصلاة بها أم لا ؟ أفتونا مأجورين
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، قد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء و القراء و أهل الحديث و التفسير و الكلام و شرح الغريب و غيرهم ، حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، و من آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي ، المعروف بابن أبي شامة ، صاحب [شرح الشاطبية]. فأما ذكر أقاويل الناس و أدلتهم و تقرير الحق فيها مبسوطًا ، فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك ، و ذكر ألفاظها ، و سائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان ، و لا يليق بمثل هذا الجواب ، و لكن نذكر النكت الجامعة ، التي تنبه على المقصود بالجواب .
فنقول : لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن [الأحرف السبعة] التي ذكر النبي صلى الله عليه و سلم أن القرآن أُنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، و كان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين و العراقين و الشام ؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها عِلْم النبوة من القرآن و تفسيره ، و الحديث و الفقه من الأعمال الباطنة و الظاهرة ، و سائر العلوم الدينية ، فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ؛ ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم .
و لهذا قال من قال من أئمة القراء : لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة و إمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين .
و لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى و تضاده ، بل قد يكون معناها متفقًا أو متقاربًا ، كما قال عبد اللّه بن مسعود : إنما هو كقول أحدكم : أقبِل ، وَ هَلُمَّ ، وَ تَعَال .
و قد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، و هذا اختلاف تنوع و تغاير لا اختلاف تضاد و تناقض ، و هذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا حديث : (أنزل القرآن على سبعة أحرف ، إن قلت : غفورًا رحيمًا ، أو قلت: عزيزًا حكيمًا فاللّه كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة) . و هذا كما في القراءات المشهورة [ربنا بَاعَد] و{بَاعِدْ** [سبأ:19]،{إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا** [البقرة:229] و(إلا أن يُخافا ألا يقيما)، {وَ إِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ** ـ و[ليزول] [إبراهيم:46]، و {بَلْ عَجِبْتَ** و (بل عجبتُ) [الصافات:12] و نحو ذلك.
و مـن الـقراءات مـا يكون المعنـى فيهـا متفقًا مـن وجـه متباينا مـن وجه ، كقـولـه: {يخدعون** و {يُخَادِعُونَ** [البقرة:9] و (يكذبون) و {يكذبون** [المطففين:11] و (لَمَسْتُم) و {لامستم** [النساء:43، المائدة:60] و {حَتَّىَ يَطْهُرْنَ** و (يطَّهَّرن) [البقرة: 222] و نحو ذلك فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، و كل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها ، و اتباع ما تضمنته من المعنى علما و عملاً ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ؛ ظنًا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه : من كفر بحرف منه فقد كفر به كله .
و أما ما اتحد لفظه و معناه و إنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات ، و المدات ، و الإمالات ، و نقل الحركات ، و الإظهار ، والإدغام ، و الاختلاس ، و ترقيق اللامات و الراآت ، أو تغليظها و نحو ذلك مما يسمى القراءات الأصول فهذا أظهر و أبين في أنه ليس فيه تناقض و لا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى ؛ إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ، و لا يعد ذلك فيما اختلف لفظه و اتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ؛ و لهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها من أولى ما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى ، و إن وافق رسم المصحف و هو ما يختلف فيه النقط أو الشكل .
و لذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعين من السلف و الأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي و نحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة و الكسائي ، فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع و الخلاف ، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة و أحمد بن حنبل و بشر بن الحارث و غيرهم ، يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع و شيبة بن نصاح المدنيين ، و قراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق و غيرهم على قراء حمزة و الكسائي.
و للعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء ؛ و لهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة ، يجمعون ذلك في الكتب ، و يقرؤونه في الصلاة و خارج الصلاة ، و ذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم .
و أما الذي ذكره القاضي عياض و من نقل من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، و جرت له قصة مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف ، كما سنبينه .
و لم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، و لكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده ، كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، و لم يتصل به بعض هذه القراءات ، فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه ؛ فإن القراءة - كما قال زيد بن ثابت- سنة يأخذها الآخر عن الأول ، كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة و من أنواع صفة الأذان و الإقامة و صفة صلاة الخوف و غير ذلك كله حسن يشرع العمل به لمن علمه ، و أما من علم نوعًا و لم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلمه ، و ليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، و لا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) .
و أما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود ، و أبي الدرداء ـ رضي اللّه عنهما ـ : ( و الليل إذا يغشى . و النهار إذا تجلى. و الذكر و الأنثى) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين ، و مثل قراءة عبد اللّه :(فصيام ثلاثة أيام متتابعات) و كقراءته :( إن كانت إلاَّ زَقْيَة [أي: صيحة . انظر: القاموس ، مادة: زقا] واحدة) و نحو ذلك - فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة ؟ على قولين للعلماء ، هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد ، و روايتان عن مالك .
إحداهما : يجوز ذلك ؛ لأن الصحابة و التابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة .
و الثانية : لا يجوز ذلك ، و هو قول أكثر العلماء ؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، و إن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة و ابن عباس ـ رضي اللّه عنهم ـ أن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين . و العرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت و غيره ، و هي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر و عمر و عثمان و علي بكتابتها في المصاحف ، و كتبها أبو بكر و عمر في خلافة أبي بكر في صحف ، أمر زيد بن ثابت بكتابتها ، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف و إرسالها إلى الأمصار ، و جمع الناس عليها باتفاق من الصحابة على و غيره .
و هذا النزاع لابد أن يبني على الأصل الذي سأل عنه السائل ، و هو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا ؟ فالذي عليه جمهور العلماء من السلف و الأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون : إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، و هو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه و سلم على جبريل ، و الأحاديث و الآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول . و ذهب طوائف من الفقهاء و القراء و أهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، و قرر ذلك طوائف من أهل الكلام ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره ؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شىء من الأحرف السبعة ، و قد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني و ترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر و عمر كتبا القرآن فيها ، ثم أرسل عثمان بمشاورة الصحابة إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف و أمر بترك ما سوى ذلك .
قال هؤلاء: و لا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة ، و من نصر قول الأولين يجيب تارة ـ بما ذكر محمد بن جرير و غيره ـ من أن القراءة على الأحرف السبعة ، لم يكن واجبًا على الأمة ، و إنما كان جائزًا لهم مرخصًا لهم فيه ، و قد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا بل مفوضًا إلى اجتهادهم ؛ و لهذا كان ترتيب مصحف عبد اللّه على غير ترتيب مصحف زيد و كذلك مصحف غيره .
و أما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم ، كما قدموا سورة على سورة ؛ لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًا ، و أما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم . قالوا : فكذلك الأحرف السبعة ، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق و تختلف و تتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغً ا، و هم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ، و لم يكن في ذلك ترك لواجب و لا فعل لمحظور .
و من هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، و كان اتفاقهم على حرف واحد يسيرًا عليهم ، و هو أرفق بهم ، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، و يقولون: إنه نسخ ما سوي ذلك .
و هؤلاء يوافق قولهم قول من يقول : إن حروف أبي بن كعب ،و ابن مسعود و غيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف - منسوخة .
و أما من قال عن ابن مسعود : إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه ، و إنما قال: قد نظرت إلى القراء ، فرأيت قراءتهم متقاربة ، و إنما هو كقول أحدكم : أقْبِلْ، و هَلُم َّ، و تَعَالَ، فاقرؤوا كما علمتم ، أو كما قال .
ثم من جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال : يجوز ذلك ؛ لأنه من الحروف السبعة ، التي أنزل القرآن عليها ، و من لم يجوزه فله ثلاثة مآخذ : تارة يقول : ليس هو من الحروف السبعة ، و تارة يقول : هو من الحروف المنسوخة ، و تارة يقول : هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه ، و تارة يقول : لم ينقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن . و هذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين .
و لهذا كان في المسألة قول ثالث ، و هو اختيار جدي أبي البركات أنه إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة ـ و هي الفاتحة عند القدرة عليها ـ لم تصح صلاته ؛ لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك ، و إن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ؛ لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها . و هذا القول ينبني على أصل ، و هو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة ، فهل يجب القطع بكونه ليس منها ؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيًا .
و ذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء ـ كالقاضي أبي بكر ـ بخطأ الشافعي و غيره ممن أثبت البسملة آية من القرآن في غير سورة النمل ؛ لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه ، و الصواب القطع بخطأ هؤلاء ، و أن البسملة آية من كتاب اللّه ، حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن و جردوه عما ليس منه ، كالتخميس و التعشير و أسماء السور ، و لكن مع ذلك لا يقال : هي من السورة التي بعدها ، كما أنها ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت آية أنزلها اللّه في أول كل سورة ، و إن لم تكن من السورة ، و هذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة .
و سواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ، فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير و لا تفسيق فيها للنافي و لا للمثبت ، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء : إن كل واحد من القولين حق ، و أنها آية من القرآن في بعض القراءات ، و هي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين ، و ليست آية في بعض القراءات ، و هي قراءة الذين يصلون و لا يفصلون بها بين السورتين .
و أما قول السائل : ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟ فهذا مرجعه إلى النقل و اللغة العربية، لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه ، بل القراءة سنة متبعة ، و هم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي ، و قد قرأ بعضهم بالياء و بعضهم بالتاء ، لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف .
و مما يوضح ذلك : أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، و يتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى : {وَ مَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ** [البقرة:74] في موضع و تنوعوا في موضعين، و قد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدًا و اللفظ محتملاً كان ذلك أخصر في الرسم .
و الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (إن ربي قال لي أن قم في قريش فأنذرهم . فقلت : أي رب ، إذًا يثلغوا رأسي ـ أي يشدخوا ـ فقال : إني مبتليك و مُبْتَلٍ بك ، و منزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائمًا و يقظَانًا ، فابعث جندًا أبعث مثليهم ، و قاتل بمن أطاعك من عصاك ، و أَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك) فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرؤه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته :(أناجيلهم في صدورهم) بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ، و لا يقرؤونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب .
و قد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من الصحابة ، كالأربعة الذين من الأنصار ، و كعبد اللّه بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع و عاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، و ذلك باتفاق علماء السلف و الخلف.
و كذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراء ـ كالأعمش و يعقوب ، و خَلف، و أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، و شيبة بن نصاح و نحوهم ـ هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده ، كما ثبت ذلك .
و هذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء و القراء و غيرهم ، و إنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و سلم ، و التابعون لهم بإحسان ، و الأمة بعدهم ، هل هو بما فيه من القراءات السبعة ، و تمام العشرة ، و غير ذلك ؟ هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؟ أو هو مجموع الأحرف السبعة ؟ على قولين مشهورين . و الأول قول أئمة السلف و العلماء ، و الثاني قول طوائف من أهل الكلام و القراء و غيرهم ، و هم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافًا يتضاد فيه المعنى و يتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا ، كما تصدق الآيات بعضها بعضًا .
و سبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع و تسويغه ذلك لهم ؛ إذ مرجع ذلك إلى السنة و الاتباع ، لا إلى الرأي و الابتداع .
أما إذا قيل : إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، و كذلك بطريق الأولى إذا قيل : إن ذلك حرف من الأحرف السبعة ؛ فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرؤوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم ؛ فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم و تنوعه في اللفظ أوْلَى و أحْرَى ، و ذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة و لا منقوطة ؛ لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين ، كالتاء و الياء ، و الفتح و الضم ، و هم يضبطون باللفظ كلا الأمرين ، و يكون دلالة الخط الواحد عل كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين ؛ فإن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و سلم تلقـوا عنـه ما أمـره اللّه بتبليغـه إليهم من القرآن لفظه و معناه جميعًا، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي ـ و هو الذي روى عن عثمان ، رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :(خيركم من تعلم القرآن و علَّمه) كما رواه البخاري في صحيحه ، و كان يقرئ القرآن أربعين سنة ـ قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان و عبد اللّه بن مسعود و غيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه و سلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم و العمل، قالوا : فتعلمنا القرآن و العلم و العمل جميعًا .
و لهذا دخل في معنى قوله : (خيركم من تعلم القرآن و علمه) تعليم حروفه و معانيه جميعًا ، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، و ذلك هو الذي يزيد الإيمان ، كما قال جُنْدُب بن عبد اللّه وعبد الله بن عمر و غيرهما : تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا ، و أنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان .
و في الصحيحين عن حذيفة قال : حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه و سلم حديثين ، رأيت أحدهما و أنا أنتظر الآخر ، حدثنا : أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ، و نزل القرآن [و قوله : جَذْر ـ أي أصل] . و ذكر الحديث بطول ه، و لا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك ، و إنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول اللّه صلى الله عليه و سلم إلى الناس .
و بلغنا أصحابه عنه الإيمان و القرآن، حروفه و معانيه ، و ذلك مما أوحاه اللّه إليه ، كما قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَ لَا الْإِيمَانُ وَ لَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا** [الشورى:52] و تجوز القراءة في الصلاة و خارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف ، كما ثبتت هذه القراءات ، و ليست شاذة حينئذ ، و اللّه أعلم .
الموضوع منقول .