عندما يتدبر الانسان المثل الذي ضربه الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة وهو “بعوضة فما فوقها” فإن ذلك يفتح أمامه بابا كبيراً لعالم واسع لا حدود له، هو عالم الحشرات الذي تنتمي البعوضة اليه والحشرات أمم أمثالنا، بل هي أكثر أنواع المخلوقات في الأرض انتشاراً وأكثرها عدداً، ولولا قدرة الله سبحانه وتعالى في ضبط التوازن بين المخلوقات بميزان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لانتشرت الحشرات بصورة لا يتصورها عقل ولتكاثرت حتى تغطي سطح الأرض كلها في سنوات معدودة، وصدق الله العظيم “والسماء رفعها ووضع الميزان” (الرحمن). فكل شيء بميزان، وكل شيء بحسبان وكل شيء خلقه الله بقدر، وقدره تقديراً بحكمته وقدرته.
تتراوح أعمار الحشرات بين الأسابيع والسنوات المعدودة ولها مجتمعات تحكمها أنظمة متعددة، وتعيش وتتنقل في جماعات ومنها المسالم ومنها الشرير، ومنها المقاتل المحارب، ومنها القناص ومنها المخادع، ومنها الذكي إلى درجة العبقرية، ومنها السلبي ومنها الايجابي، ومنها العامل ومنها الخامل، وقد تنشب بينها حروب يفنى فيها العدد الهائل من كل فئة محاربة. ومنها النافع ومنها الضار.
وقد وجدت الحشرات في الأرض قبل وجود الانسان بملايين السنين، ومازالت كما هي بشكلها ونظمها وتركيبها لم تتغير.
وليس للحشرات هيكل عظمي، ولكن يحيط بجسدها من الخارج درع صلبة تعمل كهيكل خارجي لتثبيته وحمايته، وتشتد هذه الدرع صلابة في بعض الأنواع كالخنافس حيث تمكن مقارنتها بدرع حديدية تحيط بجسم الحشرة وتحميه بصورة رائعة، وتقوم أرجل الحشرة بوظائف عديدة مثل المشي والوقوف والجري والقفز والحفر والامساك بالصيد والقتال والدفاع وامساك الأنثى عند التزاوج وقد تتحرك أزواج الأرض بصورة مستقلة عن بقية الأرجل.
وفي كثير من الحشرات تتصل بالصدر أجنحة دقيقة تتميز بوجود شبكة من الأوعية الدموية في جميع أجزاء الجناح، وقد تغطي الجناح شعيرات دقيقة تنتشر على جميع أجزائه بنظام خاص فتعكس الضوء منتجة ألوانا زاهية جميلة جذابة ومميزة لكل نوع من الحشرات، بل قد تميز الذكر عن الأنثى من النوع نفسه.
وللحشرات عيون في مقدمة الرأس، ولكن بعض الحشرات بلا عيون وتعتمد في احساسها على استقبال الأصوات وحركات الهواء والروائح.. وفي مقابل ذلك تمتلك بعض الحشرات عيوناً مركبة من عدسات صغيرة يتراوح عددها بين ست عدسات إلى بضعة آلاف من العدسات كما في اليعسوب.
أما فم الحشرة فيختلف اختلافاً كبيراً حسب نوعها فهناك حشرات ذات فكوك، وهناك ذات خراطيم كالابر، وهناك ذات ممصات. وقد يكون الخرطوم قوياً يمكنه اختراق جلد الانسان والحيوان كما في أنثى البعوضة وقد يكون ضعيفاً يمكنه امتصاص السوائل فقط في ذكر البعوض، وتتميز بعض الحشرات بفك قوي يمكنه قتل فريسة من حجمها.
جهاز عصبي متكامل
وللحشرات جهاز عصبي متكامل مكون من دماغ وشبكة من الألياف العصبية تصل إلى مختلف أجزاء الجسم وأعضائه وتقوم بالوظائف ذاتها التي يقوم بها الجهاز العصبي للانسان من تنظيم الحركات والتحكم فيها وتنظيم الافرازات والأنشطة المختلفة من سكون ونشاط ونوم ودفاع وقتال وغير ذلك.
وتضع الحشرة الواحدة أعداداً من البيض تصل إلى الآلاف في بعض الأنواع كل مرة تبيض فيها، ولا يحتاج البيض إلى حضانة خاصة من الأم حيث تبدأ الحشرة بالتغذي تلقائياً بمجرد خروجها من البيضة وتبدأ في النمو لتمر بأطوار اليرقة ثم العروس ثم الحشرة الكاملة البالغة.
وعادة ما تنطلق الحشرات بعد بلوغها في رحلة من الطيران النشيط حسب نظام زمني ومكاني خاص بكل منها، وتستمر الرحلة أياماً أو أكثر لتصل إلى أماكن استقرارها وبناء أعشاشها.. وقد تنطلق الأسراب مهاجرة إلى أماكن بعيدة منطلقة في أسراب هائلة مثل أسراب الجراد التي قد يصل حجم السرب المهاجر منها إلى أكثر من مائة كيلومتر مربع ويحتوي على أكثر من 40 ألف مليون حشرة يزيد وزنها على الثمانين ألف طن، تشكل سحابة ضخمة تحجب ضوء الشمس عن مساحات كبيرة من الأرض وتمتد إلى ارتفاعات كبيرة في السماء، وتهبط تلك الأعداد الهائلة على المزارع فتأتي على ما فيها من نباتات وتتركها خراباً لا حياة فيها. ويقبل الناس في بعض البلاد على اصطيادها واستخدامها كغذاء بعد شيها على النار كما في بعض المناطق الصحراوية في قارتي افريقيا وآسيا.
موسيقا الحشرات
وقد اهتم الانسان بأصوات الحشرات منذ القدم، فقد اتخذ قدماء الاغريق رمز (حشرة السيكادا فوق قيثارة) شعاراً للموسيقا عندهم، وفي بعض معابد اليابان نجد حشرة مغردة داخل أقفاص صغيرة، وهذه الحشرة عبارة عن بعض صراصير المزارع والنطاطات، وفي البرتغال يحتفظ الناس في بعض أنحاء البلاد ببعض أنواع من الصراصير في أقفاص صغيرة داخل حجرات منازلهم لسماع أصواتها.
وتصدر الحشرات أصواتا متنوعة بعضها يستطيع الانسان سماعه وكثير منها لا تستطيع الأذن البشرية تمييزه وانما تلتقطه الحشرات الأخرى بوساطة أجهزة سماع خاصة من صنع الخالق عز وجل.
وقد يصدر صوت الحشرة نتيجة احتكاك الفخذين مع الأجنحة، أو احتكاك أجزاد صلبة بجسم الحشرة مثل آلة الكمان، ومنها احتكاك الجناحين الأماميين ببعضهما البعض، ومنها اصدار قعقعة كدق الطبول بواسطة أعضاء متخصصة في منطقة بطن الحشرة، ومنها حركة دخول الهواء وخروجه من جسم الحشرة خلال فتحات خاصة، ومنها تفاعلات كيميائية تؤدي إلى اندفاع الهواء والغازات خارج جسد الحشرة مصدراً أصواتاً مميزة.
وقد استطاع الانسان اكتشاف بعض تلك العمليات وحاول بالتالي تقليدها في كثير من الآلات الموسيقية المعروفة.
صراع البقاء
وللحشرات طرقها وأساليبها الكثيرة للحفاظ على وجودها واستمرار بقائها في الأرض في مواجهة تحديات كثيرة من مختلف مخلوقات الأرض. فالحشرات في الأرض سابقة لوجود الانسان بملايين السنين ومازالت تنتشر في جميع مناطق الأرض من دون استثناء.
وعلى سبيل المثال نجد مجتمع النمل والذي نراه في سورة “النمل” يستمع إلى تحذير نملة وظيفتها المراقبة والتحذير من خطر يقترب “قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون” (18).
وفي بعض غابات افريقيا يخرج النمل في جيوش يبلغ طولها عدة أمتار ويزيد عرضها على المتر وينطلق لمئات الأمتار (تخيل عددها بالمقارنة بطول النملة الذي يقل عن السنتيمتر الواحد)، ويقوم ذلك الجيش بشن غارات وحشية على أعشاش النمل الأخرى والحشرات الأكبر منه حجماً ليعود إلى موطنه محملاً بالغنائم والغذاء.
وتتجول يرقات نوع من الحشرات متسلقة سيقان النباتات للقبض على حشرات (المنّ) حيث تقوم بثقب جسمها وامتصاص محتوياته كما يفعل (دراكولا) الخرافي، ولذلك يطلق عليها اسم “أسود المن”.
أما “أسود النمل” فتقوم بعمل كمين للفريسة على شكل حفرة ملساء الجوانب، فإذا وقعت فيها حشرة قامت أسود النمل بتمزيق جسدها بفكوكها الحادة القوية، وتصب عليها عصاراتها الهاضمة ثم تبتعلها وتلقي بقاياها إلى خارج الحفرة، ثم تقبع بعد ذلك في هدوء انتظاراً لفريسة أخرى ووليمة جديدة.
أما قراصنة الجو فهو نوع من الذباب الذي يهاجم الحشرات الأخرى أثناء طيرانها حيث يقبض على الضحية ويدفع بخرطومه الى داخل جسدها الذي ينهار تماماً، وهذا النوع من الذباب يهاجم غيره من الذباب كما يهاجم الحشرات التي تفوقه حجماً وقوة مثل النحل والخنافس.
أما الحشرة المسماة “فرس النبي” فهي من آكلات اللحوم الشرهة، حيث تقوم بتمزيق فريستها بواسطة أشواكها الحادة ارباً ارباً لالتهامها.
وسائل دفاعية
وفي المقابل تتنوع وسائل دفاع الحشرات عن نفسها بطرق غاية في الغرابة والدقة والذكاء.
ومن ذلك ما تفرزه بعض الحشرات من مواد كريهة الرائحة تجبر المعتدي على الابتعاد عنها؛ ومنها إطلاق قذائف سامة تصيب المهاجم في مقتل قبل وصوله إلى الفريسة، وقد يصاحب انطلاق المادة السامة صوت فرقعة يصيب المهاجم بالذعر كما تفعل بعض الخنافس القاذفة. وقد تغير الحشرة من لونها فلا يستطيع العدو تمييزها بين أوراق وأفرع الأشجار، وقد يأخذ جسم الحشرة شكل فرع شجرة يتمايل يميناً ويساراً كالثعبان مخيفاً أعداءه.
وتقوم بعض الحشرات بإفراز مواد مطهرة قاتلة للميكروبات وذلك لتنظيف عشها ومنع دخول الحشرات الغريبة وتكاثرها فيه.
وتقوم بعض أنواع الحشرات عند شعورها بالخطر بنثر الغذاء للغزاة بعد خلطه بمادة سامة للقضاء عليه.
وتلجأ بعض شغالات النحل عند الدفاع الى افراز مادة لها رائحة مميزة أثناء لدغها للمهاجمين، وتجذب رائحة تلك المادة بقية النحل في عملية استنفار سريعة للقوى الدفاعية.
ومن غرائب الحشرات ما تقوم به بعض الأنواع من حقن الفريسة بطريقة خاصة عند اتصال الدماغ بالنخاع الشوكي ما يسبب لها حالة من الشلل التام، وبعد ذلك تقوم الحشرة المهاجمة بوضع بيضها على الحشرة المشلولة التي تمثل طعاماً شهياً لما يفقس عنه البيض من يرقات تتغذى عليها وتنفق الحشرة المشلولة في النهاية.
وبعد.. فهذا غيض من فيض وقطرة من بحر عالم الحشرات الذي ينتمي إليه البعوض، عالم مملوء بالآيات والمعجزات التي أبدعها الخالق سبحانه وتعالى وجعلها في متناول أبصارنا وأسماعنا وآلاتنا آيات بينات ودلائل على عظمة الخالق وقدرته سبحانه وتعالى “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” صدق الله العظيم.
منقــول...