آيات الله في القرآن الكريم - الكتاب المقروء - تتساند مع آيات الله تعالى في الكون الكبير - الكتاب المنظور - وذلك للدلالة على وحدانية الله، وما يليق به وما ينبغي له سبحانه.
فالقرآن الكريم كما ذكر ابن القيم كتاب تجلّى الله تعالى فيه لعباده بصفاته العلى، فتارة يتجلّى في صفات الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس ويذوب الكِبْر كما يذوب الملح في الماء. وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، فيتمكن الحب من قلب العبد بحسب ما عرف من صفات جماله ونعوت كماله حتى تصير المحبة طبعا لا تكلفا.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصرته أولياءه، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به سبحانه.
وجماع ذلك أنه سبحانه متعرّف إلى العباد، سواء أشهدهم قهره وكبرياءه، أو أشهدهم بِره وإحسانه.
إن العاقل حين يفتح عينيه وقلبه على هذا الكون الكبير، يجد أن سطوره الهائلة تنطق بنعم الله التي لا تحصى، وتهتف باسم واحد أحد: “إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، إنه كان حليما غفورا”، (فاطر: 41).
يقول الإمام القرطبى فى تفسيره: “لمّا بين أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء في السماوات والأرض، بيّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى شيء إلا ببقائه”.
والآية تفتح الكون على مصراعيه ليتأمل الإنسان دلائل التوحيد في الكون الفسيح، فلولا أن الله تعالى وضع أجرام السموات والأرض بهذا النظام، لما حصل الانتفاع بهما.
والإمام الشوكانى في تفسير آية “وَسَخرَ لَكُم ما فِي السمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا منْهُ إِن فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ”، (الجاثية - 13) يقول: أي سخر لعباده جميع ما خلقه في سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحهم، وتقوم به معايشهم، ومما سخر لهم من مخلوقاته: الشمس والقمر، والنجوم النيرات، والمطر والسحاب والرياح، والمعنى: أن كل ذلك رحمة منه لعباده “إن في ذلك” المذكور من التسخير “لآيات لقوم يتفكرون” وخص المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكير إلى الاستدلال بها على التوحيد.
إن المراد بأمثال تلك الآيات في القرآن، دعم البناء العقلي للتوحيد، وإقامته على الفكر الباحث، والقناعة المبصرة، فإن كثيرا من علماء العقائد يفتون بأن المقلد لا يثاب في تقليده، لأنه يعيش على كسب غيره.
لقد وجه القرآن الكريم أنظار الناس كي يستبينوا المؤثرات المعروضة أمامهم في صميم الكون، لأن “تصميمه” يستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق الثابت العميق، ورغبة في الاستجابة للخالق الأعلى سبحانه.
لكن أولى التوحيد الحق هم الذين تتفتح بصائرهم لهذا كله، أما المحجوبون وراء أسوار المادة فلا يدركون شيئا من ذلك، لأن حضارة المادة تتسم بالذكاء في فهم الحياة الدنيا، مع غباء متعمد في فهم حقائقها السامية، ولو اتصلت علومهم بالحقائق العليا لاستقامت الحياة، ولكنه إنسان المادة.
ولسنا هنا في مقام التنديد بمن ألغى عقله، وأعلن جحوده، ولكنا نريد التأكيد على أهمية النظر والاستدلال والكسب العلمي الراقي، فبذلك ندعم بناء التوحيد، وبهذا تكون عمارة الأرض، فهنا يستطيع الإنسان أن يقوم بأعباء الأمانة والاستخلاف في الأرض على أسس متينة.
منقـــول ...