أفلا أكون عبدا شكورا
من دلائل نبوته وأمارات صدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبادته لربه وخشيته منه ، ولو كان دَعِّياً لما تعبد لله ، وما أتعب نفسه ، ولا ألزمها مشقة العبادة ، ـ فحاشاه أن يكون دعيا ـ ، فما من دعي يكذب على ربه ثم يُجْهد نفسه بالعبادة له .. فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعبد الناس لله ، وأخوفهم منه ، وهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى )(
مسلم) .
وعن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه .. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا )(
مسلم) .
وشواهد خوف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبادته لله كثيرة ..
عن
ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال
أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله قد شِبْتَ ! ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت )(
الترمذي) . وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة ..
وتصف أم المؤمنين
عائشة ـ رضي الله عنها ـ خوف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه فتقول : (
ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم .. قالت : وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فقالت : يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية ؟! ، فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عُذِّب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : **
هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا **( الأحقاف : من الآية24) )(
أبو داود)..
مستجمعا : مبالغا في الضحك ، واللهوات : جمع لهاة ، وهي اللحمات في سقف أقصى الفم ..
وأما عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربه فهي شاهد عدل على صدقه ودليل من دلائل نبوته ، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثير العبادة من صلاة وصيام وذكر ودعاء وغير ذلك من أنواع العبادة ، وكان لا يدع قيام الليل ، ويقوم حتى تتفطر قدماه ..
عن
حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : (
صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة فمضى ، فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربى العظيم ، فكان ركوعه نحوا من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلا قريبا مما ركع ، ثم سجد فقال : سبحان ربى الأعلى ، فكان سجوده قريبا من قيامه )(
مسلم) .
ويصف
علي ـ رضي الله عنه ـ حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم بدر حين تعب الصحابة وأسلموا أعينهم للنوم ، فيقول : (
ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح )(
أحمد) .
وعن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ : (
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة - تعني في الليل - ، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة )(
البخاري) .
فهل سمعت الدنيا عن مدع للنبوة يقوم نصف ليله أو أكثر يصلي ويتضرع لربه باكيا بين يديه ؟! ، قال الله تعالى : **
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ **(المزمل: من الآية20) ..
ومع ذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخفف في صلاته بالناس رأفة بهم ويقول : (
إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء )(
البخاري).
وعن
أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ قال : (
إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأَتَجَوَّزْ (أخفف)
في صلاتي ، كراهية أن أشق على أمه )(
أحمد) .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى ويحذر من التشدد والغلو في العبادة فيقول : ( ..
عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ،ـ وكان أحب الدين إليه ما دوام عليه صاحبه ـ )(
البخاري) .
قال
ابن حجر : " قوله :
عليكم بما تطيقون : أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه ، فمنطوقه يقتضى الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة ، ومفهومه يقتضى النهي عن تكلف ما لا يطاق .." ..
وأما صومه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيصفه
أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فيقول : (
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم الأيام يسرد حتى يقال لا يفطر ، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما ، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان .. فقلت : يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد أن تفطر ، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ؟! ، قال : أي يومين ؟ ، قال : قلت يوم الاثنين ويوم الخميس ، قال ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ، قال : قلت : ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟! ، قال ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم )(
أحمد).
ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يترك صيامه هذا حتى في أيام الصيف الشديد ، يبتغي بذلك المحبة والأجر والقرب من الله ـ عز وجل ـ ، فيقول
أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ : (
كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفر وإن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما منا صائم إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبد الله بن رواحة )(
أحمد) .
وفي مجال الصدقة والمبادرة إليها ، عن
عقبة بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال : (
صليت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العصر، فلما سلم قام سريعاً ، فدخل على بعض نسائه ، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته ، فقال : ذكرت وأنا في الصلاة تِبْراً (ذهباً)
عندنا ، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا ، فأمرت بقسمته )(
البخاري).
ويقول
أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ : كنت أمشي مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حرّة (أرض ذات حجارة سود) المدينة ، فاستقبلَنا أُحُدٌ ، فقال : (
يا أبا ذر :
قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا شيئاً أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه .. )(
البخاري) ..
وأما ذِكْره لربه جل وعلا ، فقد كان لسان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفتر من ذكر الله ـ عز وجل ـ ، وكان يذكر الله في كافة أحواله ، ويكثر من الاستغفار .. فعن
ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : (
إن كنا لنعد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المجلس الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم )(
أبو داود) .
لقد كان رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ المثل الأعلى وصاحب السبق في كل نوع من العبادة ، وكانت عبادته مستمرة ومتواصلة ، فهو أكمل الناس عبادة وطاعة ، وظل هذا حاله حتى لبى نداء ربه ، وهو في كل ذلك يمتثل أمره : **
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ **(الحجر:99)..
عن
علقمة ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت أم المؤمنين
عائشة ـ رضي الله عنها ـ : قلت يا أم المؤمنين : (
كيف كان عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل كان يخص شيئا من الأيام ؟ ، قالت : لا كان عمله ديمة (دائما) ،
وأيكم يستطيع ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع )(
البخاري) .
قال
ابن حجر : " قوله كان عمله ديمة .... أي دائما ، والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق ، ثم استعمل في غيره وأصلها الواو فانقلبت بالكسرة قبلها ياء .. قوله : وأيكم يستطيع الخ : أي في العبادة كمية كانت أو كيفية ، من خشوع وخضوع وإخبات وإخلاص والله اعلم .." ..
فليكن لنا في عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخلاقه وحياته وسيرته أسوة لنسعد في الدنيا والآخرة ، فهنيئاً لمن اتبعه واقتفى أثره : **
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً **(الأحزاب:21) ..