روعة القرآن
إبراهيم بن محمد الهلالي
نزل القرآن على العرب فرأوا أنهم أمام هيبة رائعة وروعة مخوفة وخوف تقشعر منه الأبدان، فأحسوا ـ وهم الفصحاء ـ أنهم ضعفاء أمام هذا الكمال العظيم، فاستسلموا لبلاغته، وتعلقت قلوبهم به وارتبطت نفوسهم بإعجازه.
هذا الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه جاء إلى مكة، فلم يزل كفار قريش يقولون: إن محمدا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا، قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفا _ أي قطناً _ خوفا أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن اسمعه، فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، وما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يقوله حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فلما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم غضا طريا قال: (والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه)، ولقد أثرت كلمات القرآن في نفسه، وسرت إلى عقله وقلبه همسات دافئة هادئة تحمل هداية القرآن.
وهنا رجل آخر كان جبارا في الجاهلية شديدا على المسلمين المستضعفين يومئذ، فلما سمع قول الله ـ تعالى ـ: طه % مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰإلى قوله: إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى، كسرت تلك الآيات أعواد الشرك في قلبه، وأذابت صخور الجاهلية، وقال: ما ينبغي لمن يقول هذا أن يعبد معه غيره، فأصبح ذاك الرجل إذا سار من فج سار الشيطان من فج آخر، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قال: اعلموا أن هذا القرآن ينبوع الهدى وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهدا بالرحمن، به يفتح الله أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، ألا وإن قراءة القرآن مع الصلاة كنز مكنون وخير موضوع، فاستكثروا منه ما استطعتم، فإن الصلاة كنز مكنون، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والصوم جنة، والقرآن حجة لكم أو عليكم فاكرموا القرآن ولا تهينوه، فإن الله مكرم من أكرمه ومهين من أهانه.
لقد أخرج القرآن جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه، هو جيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، هذا العدد الضخم الذي لم يتجمع مثله بعده في مكان واحدا، وليس السبب في تجمعه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم كما يضنه البعض، وإلا لانتهت الرسالة، والدعوة بموته صلى الله عليه وسلم ، ولكن ثمة سبب آخر هو أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ استقوا من نبع القرآن، وتكيفوا به، وتخرجوا عليه، على الرغم من وجود الثقافات المختلفة في ذلك العصر، وسبب آخر جعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يبلغون ما بلغوا من الفضائل والرفعة، هو أنهم لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا يقصد التذوق والمتاع، إنما كانوا يتلقون القرآن للعمل به في أنفسهم وفي مجتمعهم الذي يعيشون فيه، كما يتلقى الجندي الأمر في الميدان.
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح المعرفة المنشئة للعمل، ومن الأمثلة على ذلك آية تحريم الخمر، حينما نزلت جرى رجل في سكك المدينة يعلن: "ألا إن الخمر قد حرمت"، فالذي كان في يده شيء من الخمر رماه، والذي كان في فمه شربة مجها، والذي كان عنده في أوان أراقها، استجابة لأمر الله ـ تعالى ـ: إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.
إننا ـ ونحن نقرأ كلام الله سبحانه ـ نمر كثيرا على صفات منزل هذا القرآن وأسمائه وهو رب العالمين، فما هو أثر هذه الصفات والأسماء على القلوب الحية؟
إنك وأنت تقرأ آيات يتجلى فيها الرب في جلباب الهيبة والعظمة والجلال كما في قوله ـ تعالى ـ: ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ وَأَخْفَى ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ، فإن الأعناق تخضع، والنفوس تنكسر، والأصوات تخشع، والكبر يذوب كما يذوب الملح في الماء.
وإذا تجلى ـ سبحانه ـ بصفات الرحمة واللطف والبر والإحسان كما في قوله ـ تعالى ـ: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُوقوله: ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حينها تنبعث قوة الرجاء من العبد، وينبسط أمله، ويسير إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل.
وإذا تجلى الله بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وتطلعت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصرته لأوليائه، وحمايته لهم كما في قوله ـ تعالى ـ: أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُوقوله: ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْوغيرها من الآيات، فإنه تنبعث من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به في كل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه. هذا بعض ما في هذا الكتاب العظيم المملوء حكمة وهدى ونورا وبركة وشفاء.