العكاز الغليظ
شتاء نجد ريحه باردة دائما وشديدة في بعض الأحيان، والطريق من الدار إلى المسجد مظلمة، وقصيرة، ولا تحتاج لأكثر من دقيقتين أو ثلاثة على أبعد تقدير، ومنذ أربعين عاما كان مسجد القرية مبنيا من الطين شأنه شأن منازلها القليلة، كنت وأنا أحث الخطى لصلاة الفجر أجدني أعانق نفسي علي أبعد البرد عن أجزائي، وفي كل فجر أدعو بالخير لمن فكر في بناء هذا الجزء من المسجد القابع تحت الأرض، والذي ليس به إلا فتحة واحدة للدخول والخروج، ومع أن النزول كان يذكرني بوحشة القبر إلا أنه في الوقت نفسه يشعرني بالدفء والأمن.
سمعت صوت سعاله المميز قبل أن أهم بالنزول فقد سبقني اليوم، أمسكت بيده فعرفني من لمسة يدي، واستأذنته في أن أكون أمامه، فقال دعني مرة أكون أمامك فقد نتدحرج معا، وعلى الرغم من وضع سراج آخر عند نهاية الدرج الطيني إلا أن أمثال أبا صالح لا يستفيدون لا من السراج العلوي ولا من السفلي فقد حرموا من نعمة البصر ولكنهم لم يحرموا من نعمة البصيرة، نزلت بهدوء وأنا أمسك يده، وما إن حطت قدمه أرض القبو حتى سلم بصوت مرتفع خشن جرحته قسوة السنين، وفعلت به ما يفعله المسن بالسكين فيزيدها صلابة وحدة.
ناداني ونحن خارجون وبدأ يسألني عن الديك الذي أتعبنا يوم أمس وكيف كانت نهايته فحدثته عنه، ولم يكن يملك نفسه من تعليقات ظريفة كلما اقتضى الأمر ذلك، وقبل أن يسحب يده من يدي مودعا بشرني بأن الأيام الباردة من الشتاء بات عمرها قصير.
تركني وهو يحمد الله ويستغفره وتكاد تسمع عباراته بيوت القرية الصغيرة الوادعة التي بدأت الحياة تدب في جنباتها حيث يتهيأ أطفالها للذهاب إلى مدرستهم، دارت الأيام وصرنا نصلي في الجزء الأرضي من المسجد وأبا صالح لا يزال بصوته الأجش وقفشاته وروحه المرحة موضع اهتمام كل المصلين وهم الرشد في القرية مع لفيف من شبابها وأطفالها، وفي عقب كل صلاة كانت عبارته المشهورة تدوي وتحفر أخاديد في أعماق نفسي، فقد كان يتكئ على عكازه الغليظ بكلتا يديه ويرفع نفسه في نفس اللحظة التي يجهر بها بدعاء يزلزل جنبات المسجد: يا الله يا رب حسن الخاتمة.
كان يطلب حسن الخاتمة بحرقة وصدق، ولم يكن بمقدور أحد أن يتملص من الشعور بأهمية دعاء ذلك العجوز الذي فقد بصره، ورافقه الظلام طوال حياته بعد أن أصيب بالجدري وهو رضيع، فغادر جسمه مصطحبا حبيبتيه ولم يترك له سوى روح مرحة وإيمان راسخ، وحب لقدر الله ورضاء به تمثل بابتسامة لا تفارق وجهه وبصيرة جعلت من حوله يشعرون بالصغار أمام مهارته في تمييزهم من خلال أصواتهم، وأحيانا من خلال وقع أقدامهم أو ملمس أيديهم.
كنا جميعا نحبه، وكان هو من يدفعنا للتفكير بحسن الخاتمة، غاب عن ناظري أمس بعد صلاة الفجر ولا أدري ما الذي حملني على الوقوف أتابعه ببصري وهو يسير بطريق مستقيم نحو داره في زقاق ضيق لا يسمع فيه سوى طرقات عكازه ووقع قدميه، غاب أبو صالح حين انعطف يسارا باتجاه باب بيته، وكنت لا أزال أسمع وأحس بشغفه غير العادي بحسن الخاتمة، غاب ولم نره في بقية الصلوات، ولكنه حضر معنا الفجر في اليوم التالي إلا أنه لم يكن يسير على قدميه، حملناه بعد أن صلينا عليه وودعناه بدموع تنهمر بصمت ونحن ندعو له ولأنفسنا بما كان يتمناه طوال حياته.
د.ميسرة طاهر.