كيف يَموت الإنسان ؟
قـال ابـن القـيم : (( موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها ، وخـروجها منها فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة
الموت ، وإن أريـد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار ،
بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب )) ( الروح لابن القيّم / ص : 46 / ط : المدني ) .
وقـال : (( الروح ذات قائمة بنفسها تصعد وتنـزل ، وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء ، وتتحرك وتسكن ،
وعلى هذا أكثر من مائة دليل .
وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقـبض والتوفي والرجوع ، وصعودها إلى السماء ،
وفتح أبوابها لها وغـلقها عـنها ،
فقال تعالى : " وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ " ( الأنعام : 39 ) ،
وقـال تعالى : " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي " ( الفجر : 27 ، 30 ) .
وهذا يقال لها عـند المفارقة للجسد .
وقال تعالى : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " ( الشمس : 7 ، 8 ) .
فأخبر أنـه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله : " الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ " ( الإنفطار : 7 ) ،
فهو سبحانه سـوى نفس الإنسان كما سوى بدنه ، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه ،
فتسوية البدن تابع لتسوية النفس ، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له ،
ومن هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة لتميز بها عن غيرها ، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن ،
كما يتأثر البدن وينتقل عنها ، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها ، وتكتسب النفس الطيب
والخبث من طيب البدن وخبثه ،
فأشـد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا ، وتأثرا من أحدهما بالآخر ، الروح والـبدن ،
ولهذا يقال لها عند المفارقة : " اخرجي أيتها النفس الطيبة ، كانت في الجسد الطيب ،
واخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، فتأخذها الملائكة من يده فيوجد لها كأطيب
نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض " )) ( أخرجه الإمام أحمد في مسنده / 4 / 278 / بطولة ) .
والأعراض لا ريح لها ولا تمسك ، ولا تؤخذ من يد إلى يد ، وإذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة
يكون أظهر من تميز الأبـدان ، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان ، فإن الأبدان تشتبه كثيرا ،
وأما الأرواح فقل ما تشتبه ، وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكـة ، متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم ، وكذلك الجن ، فتميز الأرواح البشرية أولى )) ( الروح لابن القيّم / ص : 53 ، 54 ) .
والروح أو النفس إذا فارقت البدن بعد الممات ، فإن لها به تعلقا في الـبرزخ ،
فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا ، بحيث لا يبقى لها التفات إليه ،
وقد وردت الأحاديث والآثار بما يدل عـلى ردهـا إليه ، وقت سلام المسلم ، وهذا الرد إعادة خاصة
لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة . . . )) ( الروح لابن القيّم / ص : 58 ) .
وقـد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الروح إلى البدن وقت السؤال ،
ففي حديث البراء بن عازب :
(( كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير ،
وهو يلحد له فقال : " أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات ، فتعاد روحه في جسده فيأتيه
ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ " )) الحديث ( رواه الإمام أحمد في المسند ( 4 / 287 ) / و أبو داود والنسائي ) .
ثم قـال ابن القيم : (( وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث من سائر الطوائف )) .
أمـا كيفيـة الموت : فإن حكمة الله اقتضت أن تقبض ملائكته أرواح عباده .
قال تعالى : " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " ( السجدة : 11 ) .
وقال تعالى : " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " ( النحل : 28 ) .
وقال تعالى : " وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا
وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ " ( الأنعام : 61 ) .
قال ابن كثير : (( الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة ، وقد سمي في بعض الآثار
بعزرائيل وهو المشهور ، قاله قتادة وغير واحد ، وله أعوان ، وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه
ينتزعون الأرواح من سائر جسده حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت )) ( تفسير ابن كثير / ( 6 / 362 ) .
والمـوت : (( انقطاع تعلق الروح بالبدن ، ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال ، وانتقال من دار إلى دار )) ( التَّذكرة للقرطبي / ص : 4 ) .
أبحاث مجلة البحوث
([ ج : 65 / ص : 160 - 163 ])