همسات للرواد
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
إذا أمسكت القلم تتمكن حيرة حابسة ولطالما صارعت قلمي فصرعته فسكت واستسلم وأخلد للصمت ، ونادراً ما يتغلب قلمي على تردده وإحجامه، وما ذلك إلا لما يراه من ضعف لا يطيق معه صراع هذه الأمواج المتلاطمة من الكتابات الرائعة والضائعة، وكذلك الخوف من مسئولية الكلمة ، ولربما أن ذلك كله تبرير للقعود عن تحمل مسئولية الكلمة ، وليس من السر أن أقول أنني حدثت نفسي كثيراً بالمشاركة والإسهام في الكتابة والبحث ولكن الكسل القاتل، والزهد البارد، والخوف المميت،مما تعاني الأمة من أبنائها وأنا منهم والله المستعان، وأذكر أنني شكوت على أحد المقربين هذه المعاناة وذلك الصراع وكان نص السؤال:
كيف أستطيع أن أمارس الكتابة والتأليف بلا تردد ولا وجل؟
فقال كلمة واحدة ((أكتب)) وها أنا قد كتبت.
ولأنها الخطوة الأولى جعلتها همسات فلم أجترئ بعد لأرفع
الصوت بالنداء ، فتسللت من شفتي ((همسات)) جعلتها للرواد الذي يرتادون لقومهم القفار والشعاب (( والرائد لا يكذب أهله))
كما ورد في الأثر ولعلي في همساتي تلك أن أتناول موضوعات متفرقة.
من سيرة عطرة ، إلى نموذج واقعي رفيع، إلى أدب راق، إلى وصية من الجادين، إلى إضاءة وبما أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فلا بد لي من استراحات تتخلل تلك الهمسات، يرتاح فيها الحادي ، وتجلو القلب الصادي، فإلى ((همسات الرواد))
وقد لا يسمع الهمس إلا القريب ، ولكن الأمل في الله أن يتولى هذه الهمسات برعايته وقدرته فيكون علينا الهمس وعليه البلاغ، فإن الله كما يتولى الصدقة فيربيها كما يربي أحدكم فلوه، فإن الكلمة الطيبة صدقة إذا تولاها الله برعايته وحفظه وتوفيقه وسداده بلغت من التأثير والنفع ما يظن أنه تبلغ ما بلغت(( ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ))
وهل كان دعاء يونس في الظلمات(( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) إلا همسة ، كتبها الله له، وتقبلها ، فأنجاه بها، وبقيت خالدة إلى أبد الدهر،وهل كان يحيى عليه السلام إلا استجابة من الله لهمسات زكريا،وهل مريم وعيسى ابنها إلا ثمرة لهمسة من همسات عمران وزوجه،إن الكلمة المسئولة الأمينة الصادقة بأي شكل جاءت، وبأي خط كتبت، وبأي لغة نطقت لتزهق أرواح الملايين من الكلمات الميتة أصلاً، تلك الكلمات التي تنتحر عل شفاه أصحابها قبل أن تسقط في مزبلة التاريخ، فتلقى أخواتها المنتحرات من قبلها ، وتأتيها أخواتها المنتحرات من بعدها فتراكم في محطة النسيان لتتلاحق في جهنم،وتكون آخرها تلك الكلمات التي تتقافز من أفواه أصحابها في جهنم مصورة في قوله تعالى((كلما دخلت أمة لعنت أختها)) هذه هي نهاية تلك الكلمات الميتة غير المسئولة، اما الكلمة الحرة المسئولة فإن آخرها هي تلك التي صورت في قوله تعالى
((وقالوا الحمدلله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق......))الآية
أخيراً أقول : إن القرآن كله همسات يلقيها الروح بأمر ربه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم،لا يسمعه من بجواره وهو الروح والنور والموعظة والشفاء والرحمة والكتاب.
فالحق يشق طريقه كالنور قوته فيه لا يحتاج إلى صوت عال ولا تعرقله الحواجز،ولا يزحزحه المزاحم، الحق إذا جاء دفع،والباطل في المواجهة زاهق(( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض))
فلاتحزن على الحق فهو باق،واحزن على نفسك أين أنت منه،فما يضرك إذا هلك الناس كلهم ونجوت،وما ينفعك إذا نجا الناس كلهم وهلكت.