الموت هو الحقيقة الغائبة الحاضرة ؛ الغائبة لأن أكثر الناس قلما يفكرون فيها ، والحاضرة لأنه واقع مشاهد ، فالناس يرونه كل يوم ، لا يخفى على أحد ، ولا يمكن أن يتجاهله أحد . إنه الحقيقة التي سلم بها كل مخلوق ، وأيقن بها كل إنسان ، جعله الله فاصلا بين حياتين ،الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، فالمؤمن ينتقل به من تعب الدنيا ونصبها إلى راحة الآخرة ونعيمها ، والكافر ينتقل به من متع الدنيا ولذاتها إلى ضيق الآخرة وشقائها.
والعاقل الفطن من اتخذ هذه الدار سبيلا وطريقا إلى دار السعادة ، يعمل فيها بالصالحات ، ويسارع فيها بالخيرات ، مستحضرا دوما قوله تعالى : ** يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار **(غافر:39 ) ومتذكراً قوله تعالى: ** وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ** (البقرة: 197) .
والشقي الغافل من شغلته دنياه عن آخرته ، وأقبل على الله خالياً إلا من المعاصي والسيئات ، وقد قال تعالى في حق هذا الصنف: ** أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون **(النحل:108)
وقال أيضاً : ** يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ** (الروم:7). قال الشاعر :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثـله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالإكثار من ذكر الموت فقال : ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) رواه الترمذي وصححه . وهاذم اللذات أي : قاطعها ، ذلك أن ذكر الموت يزهد العبد في الدنيا فينقطع عن اللذات ، ويقبل على الطاعات ، ومن أكثر من ذكر الموت قنع من الدنيا باليسير ، وسارع إلى التوبة ، وتزود من الأعمال الصالحة . ومن غفل عن ذكره ابتلي بضد ذلك نسأل الله السلامة والنجاة .
ومما يعين على ذكر الموت ، ودوام استحضاره ، زيارة القبور : فزيارة القبور تورث القلب رقة ، وتدفع الزائر إلى الاتعاظ بحال أهل القبور ، لأجل ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر فقال : ( فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم . وفي رواية لابن ماجة ( فإنها تذكر الآخرة ) . ومما يعين على ذكر الموت أيضاً حضور مجالس الوعظ ، وسماع أخبار الصالحين : فمن حضر مجالس الوعظ ، وداوم على سماع أخبار الصالحين ، وعلم ما كانوا عليه من الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة لم يغب عنه ذكر الموت والتزود لما بعده . ومن أقوى ما يعين على ذكر الموت تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبر آياته نحو قوله تعالى : ** واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ** (البقرة:281) وقوله أيضاً : ** كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ** (آل عمران:185) . فمن تدبر كتاب الله عز وجل وما فيه من المواعظ والآيات لم يغب ذكر الموت عنه وسارع إلى التزود بالأعمال الصالحة قبل قدومه . ومما يعين على ذكر الموت التقلل من الدنيا وتقصير الأمل فيها لذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر بذلك فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) . وكان ابن عمر يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) رواه البخاري .
فهذا هو الموت، وتلك هي الأسباب المعينة على ذكره، فينبغي للمسلم أن يضع الموت نصب عينيه، لا على أنه النهاية، بل على أنه بداية الحياة الحقيقية، الحياة التي إما أن تكون نعيما سرمديا، أو عذابا أبدياً.