هل يحاسب الانسان على ما يدور فى نفسه من خير أو شر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سؤال:
أحيانا
يبتلى الإنسان بالتفكير في معصية من المعاصي ، ومثل ذلك أمور وسوسه الشيطان
والنفس بالسوء ، فهل يجازى المرء على ما يدور في نفسه ، ويكتب عليه ،سواء
كان خيرا أم شرا ؟
وروى
البخاري (5269) ومسلم (127) ـ أيضا ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا
حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْتَتَكَلَّمْ ) .
قال ابن رجب رحمه الله :
" فتضمنت هذه النصوص أربعة أنواع : كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذه أربعة أنواع .. " ، ثم قال :
"
النوع الثالث : الهمُّ بالحسنات ، فتكتب حسنة كاملة ، وإنْ لم يعملها ،
كما في حديث ابن عباس وغيره ، ... وفي حديث خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ :" ..
وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ
أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً .. " [
رواه أحمد 18556، قال الأرناؤوط : إسناده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة
] ، وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا : هو العزمُ المصمّم الذي
يُوجَدُ معه الحرصُ على العمل ، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر ، ثم
تنفسِخُ من غير عزمٍ ولا تصميم .
قال أبو الدرداء : من أتى فراشه ، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل ، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ ، كتب له ما نوى ...
وروي
عن سعيد بن المسيب ، قال : من همَّ بصلاةٍ، أو صيام ، أو حجٍّ ، أو عمرة ،
أو غزو ، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك ، بلَّغه الله تعالى ما نوى .
وقال أبو عِمران الجونيُّ : يُنادى المَلَكُ : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقولُ : يا ربِّ ، إنَّه لم يعملْهُ ، فيقول : إنَّه نواه .
وقال
زيدُ بن أسلم : كان رجلٌ يطوفُ على العلماء ، يقول : من يدلُّني على عملٍ
لا أزال منه لله عاملاً ، فإنِّي لا أُحبُّ أنْ تأتيَ عليَّ ساعةٌ مِنَ
الليلِ والنَّهارِ إلاَّ وأنا عاملٌ لله تعالى ، فقيل له : قد وجدت
حاجتَكَ ، فاعمل الخيرَ ما استطعتَ ، فإذا فترْتَ ، أو تركته فهمَّ بعمله
، فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله .
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ ، تأكَّدَ الجزاءُ ، والتحقَ صاحبُه بالعامل ،
كما روى أبو كبشة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ : عبدٍ
رَزَقَهُ الله مالاً وعلماً ، فهو يتَّقي فيه ربَّه، ويَصِلُ به رَحِمَه ، ويعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ،
وعبدٍ
رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادِقُ النِّيَّة ، يقول : لو
أنَّ لي مالاً ، لعمِلْتُ بعملِ فلانٍ ، فهو بنيتِه ،فأجرُهُما سواءٌ ،
وعبدٍ
رزقه الله مالاً ، ولم يرزُقه علماً يَخبِطُ في ماله بغير علمٍ ، لا يتَّقي
فيه ربّه ، ولا يَصِلُ فيه رحِمهُ ، ولا يعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأخبثِ
المنازل ،
وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً ، فهو يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعَمِلتُ فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوِزْرُهما سواءٌ )
خرَّجه الإمام أحمد والترمذى وهذا لفظُهُ ، وابن ماجه [ صححه الألباني لغيره ] .
وقد
حمل قوله : " فهما في الأجر سواءٌ " على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ،
دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم
يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم
يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ،
ويدلُّ على ذلك
قوله تعالى : ** فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً
عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ ** ،
قال ابن عباس وغيره : القاعدون
المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون
المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار " .
ثم قال رحمه الله :
"
النوع الرابع : الهمُّ بالسَّيِّئات من غير عملٍ لها ، ففي حديث ابن عباس
: أنَّها تُكتب حسنةً كاملةً ، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما
أنَّها تُكتَبُ حسنةً ، وفي حديث أبي هريرة قال : ( إنَّما تركها مِن
جرَّاي ) [ مسلم 129] ، يعني : من أجلي . وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ
مَنْ قَدَرَ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، فتركه لله تعالى ، وهذا لا
رَيبَ في أنَّه يُكتَبُ له بذلك حسنة ؛ لأنَّ تركه للمعصية بهذا المقصد
عملٌ صالحٌ .
فأمَّا إن همَّ بمعصية ، ثم ترك عملها خوفاً من
المخلوقين ، أو مراءاةً لهم ، فقد قيل : إنَّه يُعاقَبُ على تركها بهذه
النيَّة ؛ لأنَّ تقديم خوفِ المخلوقين على خوف الله محرَّم . وكذلك قصدُ
الرِّياءِ للمخلوقين محرَّم ، فإذا اقترنَ به تركُ المعصية لأجله ،
عُوقِبَ على هذا الترك ...
قال الفضيلُ بن عياض : كانوا يقولون : تركُ العمل للناس رياءٌ ، والعمل لهم شرك .
وأمَّا
إنْ سعى في حُصولها بما أمكنه ، ثم حالَ بينه وبينها القدرُ ، فقد ذكر
جماعةٌ أنَّه يُعاقَب عليها حينئذٍ لحديث : ( ما لم تكلَّمْ به أو تعمل ) ،
ومن
سعى في حُصول المعصية جَهدَه ، ثمَّ عجز عنها ، فقد عَمِل بها ، وكذلك
قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما ،
فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّار ) ، قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتلُ ،
فما بالُ المقتول ؟! قال : (إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه ) [رواه
البخاري 31 ومسلم 2888] .
وقوله : ( ما لم تكلَّم به ، أو تعمل )
يدلُّ على أنَّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه إنَّه
يُعاقَبُ على الهمِّ حينئذٍ ؛ لأنَّه قد عَمِلَ بجوارحِه معصيةً ، وهو
التَّكلُّمُ باللِّسان ، ويدلُّ على ذلك حديث [ أبي كبشة السابق ] الذي
قال : ( لو أنَّ لي مالاً ، لعملتُ فيه ما عَمِلَ فلان ) يعني : الذي يعصي
الله في ماله ، قال : ( فهما في الوزر سواءٌ ) . "
ثم قال رحمه الله :
" وأمّا إن انفسخت نِيَّتُه ، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه ، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، أم لا ؟
هذا على قسمين :
أحدهما
: أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطراً خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه ، ولم يعقِدْ
قلبَه عليه ، بل كرهه ، ونَفَر منه ، فهذا معفوٌّ عنه ، وهو كالوَساوس
الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها ، فقال :
( ذاك صريحُ الإيمان ) [ رواه مسلم 132 ] ...
ولمَّا نزل قولُه
تعالى : ** وَإِنْ تُبْدُوامَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن ْيَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ ** ، شقَّ ذلك على المسلمين ، وظنُّوا دُخولَ هذه الخواطر فيه ،
فنَزلت الآية التي بعدها ، وفيها قوله : ** رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا
لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ** [رواه مسلم 126] ، فبيَّنت أنَّ ما لا طاقةَ لهم
به ، فهو غيرُ مؤاخذٍ به ، ولا مكلّف به .. ، وبيَّنت أنّ المرادَ بالآية
الأُولى العزائم المصمَّم عليها ...
القسم الثاني : العزائم المصممة التي تقع في النفوس ، وتدوم ، ويساكنُها صاحبُها ، فهذا أيضاً نوعان :
أحدهما
: ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِ القلوب ، كالشَّكِّ في الوحدانية
، أو النبوَّة ، أو البعث ، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق ، أو اعتقاد
تكذيب ذلك ، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ ، ويصيرُ بذلك كافراً
ومنافقاً ...
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب ، كمحبة ما يُبغضهُ الله ، وبغضِ ما يحبُّه الله ، والكبرِ ، والعُجبِ ...
والنوع
الثاني : ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب ، بل كان من أعمالِ الجوارحِ ،
كالزِّنى ، والسَّرقة ، وشُرب الخمرِ ، والقتلِ ، والقذفِ ، ونحو ذلك ،
إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك ، والعزم عليه ، ولم يَظهرْ له أثرٌ في
الخارج أصلاً . فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء :
أحدهما
: يؤاخذ به ، " قال ابنُ المبارك : سألتُ سفيان الثوريَّ : أيؤاخذُ العبدُ
بالهمَّةِ ؟ فقال : إذا كانت عزماً أُوخِذَ ". ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من
الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم ، واستدلوا له بنحو
قوله - عز وجل - :
** وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ** ، وقوله : ** وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ** ،
وبنحو قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (الإثمُ ما حاكَ في صدركَ ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه النَّاسُ ) [ رواه مسلم 2553 ] ،
وحملوا
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوزَ لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به
أنفُسَها ، ما لم تكلَّم به أو تعمل ) على الخَطَراتِ ، وقالوا : ما ساكنه
العبدُ ، وعقد قلبه عليه ، فهو مِنْ كسبه وعملِه ، فلا يكونُ معفوّاً عنه
...
والقول الثاني : لا يُؤاخَذُ بمجرَّد النية مطلقاً ، ونُسِبَ
ذلك إلى نصِّ الشافعيِّ ، وهو قولُ ابن حامدٍ من أصحابنا عملاً بالعمومات
. وروى العَوْفيُّ عن ابنِ عباس ما يدلُّ على مثل هذا القول ... " انتهى،
من جامع العلوم والحكم : شرح الحديث السابع والثلاثين (2/343-353)
باختصار، وتصرف يسير .
والخلاصة :
أن من هم بالحسنة والخير ، وعقد قلبه وعزمه على ذلك ، كتب له ما نواه ، ولو لم يعمله ، وإن كان أجر العامل أفضل منه وأعلى .
ومن هم بسيئة ، ثم تركها لله ، كتبت له حسنة كاملة .
ومن هم بسيئة ، وتركها لأجل الناس ، أو سعى إليها ، لكن حال القدر بينه وبينها ، كتبت عليه سيئة .
ومن
هم بها ، ثم انفسخ عزمه ، بعد ما نواها ، فإن كانت مجرد خاطر بقلبه ، لم
يؤاخذ به ، وإن كانت عملا من أعمال القلوب ، التي لا مدخل للجوارح بها ،
فإنه يؤاخذ بها ، وإن كانت من أعمال الجوارح ، فأصر عليها ، وصمم نيته على
مواقعتها ، فأكثر أهل العلم على أنه مؤاخذ بها .
قال النووي رحمه الله ـ بعد ما نقل القول بالمؤاخذه عن الباقلاني ـ :
"
قال القاضي عياض رحمه الله عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين
على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال
القلوب .
لكنهم
قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليست السيئة التي هم بها لكونه لم
يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة ، لكن نفس الإصرار
والعزم معصية ،
فتكتب معصية ؛ فإذا عملها كتبت معصية ثانية فان تركها
خشية لله تعالى كتبت حسنة ، كما في الحديث إنما تركها من جراي فصار تركه
لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه
حسنة ،
فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم ) انتهى .
شرح مسلم (2/151) .
واختار
ابن رجب رحمه الله أن المعصية " إنَّما تكتَبُ بمثلِها من غير مضاعفةٍ ،
فتكونُ العقوبةُ على المعصيةِ ، ولا ينضمُّ إليها الهمُّ بها ، إذ لو
ضُمَّ إلى المعصية الهمُّ بها ، لعُوقبَ على عمل المعصية عقوبتين ، ولا
يقال : فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة ، فإنه إذا عملها بعد الهمِّ بها ،
أُثيب على الحسنة دُونَ الهمِّ بها ، لأنَّا نقول : هذا ممنوع ، فإنَّ من
عَمِلَ حسنة ، كُتِبَت له عشرَ أمثالِها ، فيجوزُ أن يكونَ بعضُ هذه
الأمثال جزاءً للهمِّ بالحسنة ، والله أعلم " .
منقووووول من موقع أذكر الله