خمس لا يعلمهن إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أمـا بعـد :.
فإن الله تبارك وتعالى أثنى على الذين يؤمنون بالغيب ، وما ذلك إلا لأنهم آمنوا وصدقوا بما لم يروه من موعود الله ومن خبر رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الله جل جلاله : ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
والإيمان بالغيب هو الذي ينفع صاحبَه .
أما إذا عاين العبد ورأى رأي عين فإنه لا ينفعه الإيمان ، بل لا يكون إيمانا بالغيب .
كأن يُعاين ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب عند الاحتضار ، فإن الإيمان حينئذ لا ينفعه لأنه آمن بما هو مشاهد فلا يكون إيمان بالغيب .
قال الله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )
ولذا لما آمن فرعون عند معاينة الموت ومُصارعة الغرق لم ينفعه إيمانه ، فقال لما أدركه الغرق : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
فقال الله جل جلاله : ( آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
يعني الآن تؤمن لما عاينت الهلاك ... فأين أنت وقت الإمهال وزمن قبول التوبة ؟
كما أنه لا ينفعه الإيمان حينما يُدرك طلوع الشمس من مغربها ، لأنه آمن بشيء مُشاهد .
قال الله تبارك وتعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ )
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون ، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو
كسبت في إيمانها خيرا . متفق عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض . رواه مسلم .
وقد يبتلي الله عباده ليعلم سبحانه من يخافُه بالغيب ومَنْ يعلم علم يقين أن الله مطّلعٌ عليه .
قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وقد وعد الله الذين يخشونه بالغيب بالمغفرة في الدنيا والأجر الكبير في الآخرة .
قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )
وأما علم الغيب فهو مما اختص الله به نفسه وحَجَبَه عن عباده لمصلحتهم .
قال ابن القيم – رحمه الله – وهو يُبيّن العلم الممنوح للعباد والعلم الممنوع :
قال : ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك [ أي علم ما سوى ما ينفعهم ] مما ليس في شأنهم ولا فيه مصلحة لهم ولا نشأتهم قابلة لـه ، كعلم الغيب وعلمِ ما كان وكلّ ما يكون ، والعلم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال ومساقط الاوراق وعدد الكواكب ومقادِيرها
، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى وما في لجج البحار وأقطار العالم وما يُكِنُّه الناس في صدورهم ، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، إلى سائر ما عزب عنهم علمه ، فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه وبخس من التوفيق حظه ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره .
وقال أيضا : ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم علم الساعة ومعرفة آجالهم وفي ذلك من الحكمة البالغة مالا يحتاج إلى نظر فلو عرف الإنسان مقدار عمره فإن كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش وكيف يتهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت فلولا طول الامل لخربت الدنيا وأنما عمارتها بالآمال ،
وإن كان طويل العمر وقد تحقق ذلك فهو واثق بالبقاء فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد ويقول إذا قرب الوقت أحدثت توبة ،
وهذا مذهب لا يرتضيه الله تعالى عز وجل من عباده ولا يقبله منهم ولا تصلح عليه أحوال العالم ولا يصلح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبق في علمه ،
فلو أن عبدا من عبيدك عمل على أن يُسخطك أعواما ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه ولم يفز لديك بما يفوز به من همه رضاك ، وكذا سُنة الله عز وجل أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع ...
إلى أن قال – رحمه الله – : فَبَانَ أن من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم ،فلا يزال الكيِّس يترقب الموت وقد وضعه بين عينيه فينكف عما يضره في معاده ويجتهد فيما ينفعه ويُسرُّ به عند القدوم .يُتيع