الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
|| ░ » أنواع الرؤى
نلحظ في عصرنا هذا اهتماماّ متزايداً بالرؤى وقصّها على المعبرين
وكثيراً ما تجد السؤال عنها وهل هي حلمٌ أم رؤيا، بل قد تجد بعض العامة قد اقتحم هذا المجال،
وأصبح عنده جدار تعبير الرؤيا شديد القصر يصعد عليه
بين وقت وآخر.
وما هذا إلاَّ من الجهل في الدِّين والاستعجال والجرأة على الفتوى
إذ أنَّ تعبير الرؤى فتوى بدليل، قوله تعالى على لسان العزيز:
** وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ** . [ يوسف : 43 ]
فقوله: ( أَفْتُونِي )
فيها دلالة على أنَّ تعبير الرؤيا فتوى يجب عدم القول بها من غير علم .
والحقيقة أنَّ المتأمل في الرؤى ولأقوال العلماء فيها يجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع
|| ░ » النوع الأول :: الرؤيا المكروهة
وهي ما يكون من فعل الشيطان، وإلقائه في النفس، مما يسمى بأضغاث الأحلام والتي ترجع إلى مكر الشيطان وخداعه وعداوته للإنسان.
ومثال هذا النوع :
ما رواه مسلم في صحيحة من حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه
فقال: إني حَلَمْتُ أنَّ رأسي قُطع فأنا أَتَّبعُهُ
فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (( لا تُخْبر بِتَلَعُّبِ الشيطان بك في المنام)).
وفي رواية أخرى قال جابر: سمعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ يخطُبُ
فقال: (( لا يُحَدثَنَّ أحدكم بتلعُّب الشيطان به في منامه)).
قال الشيخ محمد بن صالح ال عثيمين رحمه الله :
أما أضغاث الأحلام فإنها مشوشة غير منظمة، والغالب أنَّ المرائي المكروهة من الشيطان
قال تعالى :** لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُوا وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْءا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ **
[المجادلة : 10 ]
وهذا النوع من الرؤى له آداب ستة:
الأول: أن يتعوذ بالله من شرها، وهذا علته واضحة، فالاستعاذة مشروعة عن كل أمر يكره.
الثاني: أن يتعوذ بالله من الشيطان.
لحديث (( إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهُها فليتحول وليتفل عن يساره ثلاثاً وليسأل الله من خيرها وليتعوذ بالله من شرها))
رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً ورواه مسلم أيضاً.
وجاء في رواية في مسلم عن جابر أيضاً: (( وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً ))
وجاء في رواية لمسلم أيضاً: (( فليبصق عن يساره ثلاثاً ))،
وهذا سأوضحه في
الثالث: أن يَتْفِلَ حين ينتبه من نومه عن يساره ثلاثاً، أي يبصق عن جانبه الأيسر ثلاث مرات بَصْقاً خفيفاً، والسر في هذا والله أعلم، كراهة لما رأى وتحقيراً للشيطان الذي أراه تلك الرؤيا على الصحيح بشكل حقيقي،
وخصَّ اليسار لأنه محل الأقذار، والتثليث في رواية مسلم السابقة للتأكيد،
وقد ورد بثلاثة ألفاظ:
التَّفْثُ: ويكون بلا ريق،
والتفلُ: ويكون معه رِيْقٌ لطيف،
والبصْقُ: ويكون معه ريق وأشد من التفل.
الرابع: أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه حين رأى ذلك، إلى جنبه الثاني؟
والسبب في هذا : تفاؤلاً بتحويله وانتقاله، ولعلِّ هناك سبباً آخر وهو مجانبةُ مكان الشيطان، ولكي تتحول الرؤيا من المكروه إلى المحبوب، وتنتقل من المُضرِّ إلى السَّار.
الخامس: أن لا يذكرها لأحد أصلاً، وقد جاء بذلك عدة أحاديث صحيحة منها ما رواه البخاري رحمه الله من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال فيه: (( ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره))
وكما تقدم معنا قصة الرجل الذي تحدث برؤيا ضرب عنقه، فإن أبى إلاَّ تعبيرها فلا يقصها إلاَّ على مَن يثق به، أو ناصح له، أو على عالم لكي يعبروها له بخير مهما أمكنهم ويرشدونه لما يُعينه عليها وما ينفعه.
وقد يرد سؤال هنا، ما السرُّ في ذلك النهي؟
فأقول السرُّ والله أعلم _ لأنَّ المُحدَّث بها، ربما فسرها بمكروه على ظاهر صورتها _ ويكون ذلك محتملاً، فيقع بتقدير الله تعالى،
ويدل على هذا حديث أبي رزين رضي الله عنه مرفوعاً:
(( إنَّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبَّر، فإذا عُبرت وقعت))، والحديث حسن.
والمعنى: أنَّ الرؤيا إذا كانت محتملة وجهين، فعبّرت بأحدهما وقعت على قرب تلك الصفة، ويدل على ذلك ما جاء عن عبد الرزاق
قال: الرؤيا تقع على ما يُعبر مثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها.
وقال الشيخ ( محمد بن ناصر الدِّين الألباني )
تعليقاً على حديث:
(( إنَّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبَّر فإذا عُبرت وقعت)).
الحديث صريح بأنَّ الرؤيا تقع على مثل ما تعبر، ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن لا نقصَّها إلاَّ على ناصح أو عالم أو مُحبّ، لأن المفروض فيهم أن يختاروا أحسن المعاني في تأويلها فتقع على وفق ذلك، لكن مما لا ريب فيه أنَّ ذلك مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا ولو على وجهٍ، وليس خطأً محضاً، وإلاَّ فلا تأثير له حينئذ والله أعلم، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري
في كتاب التعبير من صحيحه بقوله:
[ باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ] .
ويدل عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين عبر له رؤيا:
(( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ))،
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ما أخطأ فيه أبو بكر، ولو بيّن هذا الذي أخطأ فيه لكان تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم هو الثاني والأول يكون المعتمد، ولكن اتّضح خطأ هذا.
ولذلك فلا تَقُصّ رؤاك بشكل عام إلاَّ على مَن تثق به، وبنصحه وعلمهِ ورأيه،
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقول: ((لا تقصوا الرؤيا إلاَّ على عالم أو ناصح)).
وفي رواية: (( ولا تقصها إلاِّ على وادّ))،
بتشديد الدال اسم فاعل من الود، أخرجه الترمذي
وقال الشيخ الألباني : إسناده صحيح على شرط الشيخين،
ومعنى الحديث السابق((الرؤيا على رجل طائر))
أنها لا تستقر ما لم تعبر، فكأنها كانت على رجل طائر فسقطت ووقعت حيث عبرت، كما يسقط الشيء الذي يكون على رجل الطائر بأدنى حركة وهذا تشبيه تمثيلي، حيث شبّه الرؤيا بالطائر السريع طيرانه، وقد علق على رجله شيء يسقط بأدنى حركة.
ومما يدل على إمكانية وقوع الرؤيا على وجهٍ تحتمله ما رواه الدارمي في سننه في كتاب الرؤيا بسند حسنٍ عن سليمان بن يسار عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوجٌ تاجر، فكانت ترى رؤيا كلما غاب عنها زوجها، وقلّما يغيب إلاَّ تركها حاملاً، فتأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتقول: إنَّ زوجي خرج تاجراً فتركني حاملاً، فرأيت فيما يرى النائم أنَّ سارية بيتي انكسرت وأنّي ولدتُ غلاماً أعور
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
((خير، يرجع زوجك عليك إن شاء الله تعالى صالحاً، وتلدين غلاماً بَرّاً)).
فكانت تراها مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ذلك لها، فيرجع زوجها وتلد غلاماً .. فجاءت يوماً كما كانت تأتيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، وقد رأت تلك الرؤيا
فقلت لها: عمَّ تسألين رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمَة الله؟
فقالت: رؤيا كنت أراها فآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها،
فيقول : (( خيراً )) فيكون كما قال
فقلت: أخبريني ما هي؟
قالت: حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأْعرِضُها عليه كما كنت أعرض.
قالت عائشة: فوالله ما تركتها حتى أخبرتني،
فقلتُ: والله إن صدقت رؤياك ليموتَنَّ زوجُك، وتلدين غلاماً فاجراً!!
فقعدت تبكي، وقالت : مالي حين عرضتُ عليك رؤياي؟؟
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي،
فقال لها: ((مالها يا عائشة؟))
فأخبرته الخبر وما تَأَوَّلتْ لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مَهْ يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على الخير، فإنَّ الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها))
قالت عائشة: فمات والله زوجها، ولا أراها إلاَّ ولدت غلاماً فاجراً.
والخلاصة
التي نخرج بها من هذا، أنَّ الرؤيا إذا كانت محتملة وجهين، فعُبّرت بأحدهما وقعت على قرب تلك الصفة. ولذلك نهى يعقوب ابنه يوسف أن يقصص رؤياه على إخوته خشية من كيدهم وحسدهم له،
قال ابن حجر: نهى صلى الله عليه وسلم أن يحدّث بالرؤيا إلاَّ مَن يحب لأنه قد يُفسّرها له بما لا يُحب
إما بُغضاً وإما حسداً، فقد تقع عن تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزناً ونكداً فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.
السادس : مما يطلب عند الرؤيا المكروهة أيضاً: الصلاة،
ويدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
(( إذا رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل ولا يحدّث بها الناس)).
والحكمة والله أعلم: أنَّ في الصلاة التجاء من كل أمر ينوب العبد من المخاوف كما أنَّ فيها تَحرّزٌ عن المكاره.
وذكر بعض أهل العلم أمراً سابعاً :
وهو قراءة آية الكرسي ولكن لا دليل له، ولو قرأ آية الكرسي في صلاته هذه يكون قد حقّق الأمرين معاً، الصلاة وقراءة آية الكرسي.
وإن اقتصر على عمل بعض ما ذكر أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. لكن الأفضل أن يفعلها جميعا لكي يجمع بين الروايات.
قال ابن القيم في زاد المعاد:
ومتى فعل ذلك لم تضره الرؤيا المكرومة بل هذا يدفع شرها.
قال النووي: إنَّ الله جعل ما ذكر سبباً للسلامة من المكروه المُترتب على الرؤيا كما جعل الصدقة وقاية للمال ... وجعل الدعاء فيه ردٌ ودفع للبلاء والصدقة تدفع ميتة السوء
وكل هذا بقضاء الله وقدره.