أهمية علم الطب في الكتاب والسنة وآثار السلف
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جاء الوحي سواء كان وحي القرآن أم وحي السنة ، بطب القلوب والأبدان ، وبيان أمراضهما وشفائهما مصداقاً لقوله تعالى : ** ما فرطنا في الكتاب من شيء ** [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : ** وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ** [ الإسراء : 82 ] ، بل جعل الله تعالى كلامه ووحيه شفاء ، : ** قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ** [ فصلت : 44 ] .
وقد أشار أن القرآن إلى أصول قواعد الطب الثلاثة – حفظ الصحة ، والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المادة الفاسدة – في أكثر من آية .
ولقد تجاوزت آيات الطب في القرآن الأربعين آية ، ذكرها العلماء والأطباء الذين اعتنوا بالطب النبوي والإسلامي .
وطب الأبدان يشترك فيه الناس جميعاً – أنبياء وغير أنبياء - ، أما طب القلوب والأرواح فلا يتوصل إليه بوحي الكتاب والسنة ، ويشمل هذا النوع من الطب : " تهذيب النفوس ، ورياضتها ، ودفع هواها ، وأصلاح العقل والفكر ، والحث على الفضيلة ، ومجانبة الرذيلة ، والخلق الدنيء ، والكذب ، والحقد ، وسلامة الصدر من الحسد والغش ، والنفاق ، وعشق الهوى ، والمجون ، وشره النفوس
وطب القلوب يسكن الغضب ، ويصفي الذهن من الغم والهم ، وهو رياضة روحية ، وفيه الاعتماد والتوكل على الله ، والالتجاء إليه ، والدعاء والاستغفار ، والصدقة والإحسان ؛ فإن في هذه الأمور من التأثير في شفاء ما لا يصل إليه علم الأطباء والأدوية ، سواء في القديم أو الحديث ، وقد جرب هذا على مر العصور ، وحصل لكثير من الناس في مختلف المجتمعات فيه الشفاء "(1) .
قال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : " وطب القرآن وشفاؤه لا ينتفع به إلا من تلقاه بالقبول والرضا والاعتقاد ، ولا يُنكر
ـــــــــــــــ
( 1 ) " الطب النبوي " لابن القيم ( ص 74 ، 68 ) .
عدم انتفاع كثيرين من المرضى بالقرآن ، وبالطب النبوي ، وذلك لعدم كمال التلقي والاعتقاد ، وليس هذا راجعاً لقصور في العلاج ، وإنما لفساد ؛ وشفاء القرآن لا يناسب إلا الأبدان الطيبة ، والأرواح الطيبة ، والقلوب الحية "(1) .
· أهــمـية الـطب فـــــي الســنــة :
اعتنت السنة النبوية بصحة الأجساد ووقايتها من الأمراض ، ودفع المؤذي عنها ؛ فأمرت بالحفاظ على البيئة ليسلم ساكنوها من الإنسان والحيوان ؛ لأن سلامة التربة والماء والهواء من عوامل بقاء الإنسان واستمرار بقائه ، ولذلك أمرت الشريعة بالطهارة والنظافة ؛ بل جعلت السنة الطهارة شطر الإيمان بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان "(2) .
ومعلوم أن الجراثيم والميكروبات تتكاثر حيث تغيب النظافة ؛ فلا بد من نظافة المطعم ، والمشرب ، والملبس ، والبدن ، والمأوى ، وموارد المياه ، وطرق الناس ، وأماكن استظلالهم ، بل قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفسد على الناس أماكن تجمعهم وحضورهم بتلويثها ، حيث قال : " اتقوا الملاعن الثلاثة ... "(3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يغتسل فيه "(4) .
" وطب القرآن وشفاؤه لا ينتفع به إلا من تلقاه بالقبول والرضا والاعتقاد ، ولا يُنكر عدم انتفاع كثيرين من المرضى بالقرآن ، وبالطب النبوي ، وذلك لعدم كمال التلقي والاعتقاد ، وليس هذا راجعاً لقصور في العلاج ، وإنما لفساد ؛ وشفاء القرآن لا يناسب إلا الأبدان الطيبة والأرواح الطيبة والقلوب الحية " .
وجعل الإسلام إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان(5) .
كل هذا يعني أن الإسلام دين النظافة والصحة ، فغسل الإناء مما
ـــــــــــــــ
( 1 ) المصدر السابق ( ص 104 ) .
( 2 ) أخرجه مسلم في " صحيحه " ( 1 / 203 ) برقم ( 223 ) ، وأبو داود في " سننه " – كتاب الطهارة ( 1 / 39 ) ، من حديث أبي مالك الأشعري .
( 3 ) أخرجه أبو داود ( 1 / 7 / رقم 26 ) ، وابن ماجه ( رقم 328 ) .
( 4 ) أخرجه مسلم في " صحيحه " – كتاب الطهارة – ( 1 / 253 – برقم 95 ) ، وغيره .
( 5 ) أخرجه مسلم ( 1 / 63 ) ، رقم ( 35 ) ، وأبو داود في " سننه " ( 5 / 55 ) رقم ( 4676 ) ، والترمذي ( 1 / 359 ، 360 ) ، وابن ماجه ( 1 / 22 ) رقم ( 57 ) من حديث أبي هريرة .
قد يعلق به من ولوغ الكلب من الديدان التي تسبب أمراض الرئتين ، والكبد ، والكليتين ، والمخ ، والأعصاب التناسلية ، وغيرها مما أثبت بالعلم .
وحدوث الوباء وانتشاره من الأقذار والمستنقعات في الطرقات والأماكن العامة ، كل هذه مصادر رئيسه لانتشار الميكروبات والأوبئة ، وحدوث الأمراض الخطيرة في المجتمع ، وكثيراً ما تحدث الأمراض الجلدية وغيرها بسبب تلوث الماء ، واستعماله في الغسل والشراب(1) .
فالله تعالى : ** إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين **[ البقرة : 222 ]
و : ** فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ** [ التوبة : 108 ] ؛ فالطهارة في الباطن والظاهر ، والنفس ، والبدن ، من أسباب نيل محبة الله ، ومحبة رسوله ؛ لأن الشياطين تميل إلى الأنجاس والأرجاس باطناً وظاهراً ، وتقترن بأصحابها ، وترافقهم حيث حلوا ، وحيث ارتحلوا ، وقد نزلت الآية السابقة في أهل قباء ؛ كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم هذه الآية ، صححه ابن خزيمة .
وفي استعمال الغسل والوضوء عند كل صلاة وتكريره مبالغة في النظافة ، ووقاية للجسم ، وعناية بالمسلم في كل حالة من حالاته حتى يظهر بصورة الجمال في جسمه ، ومنظره ، وملبسه ، ومسكنه ، ومجتمعه ، وفي المواطن الاجتماعية مع الناس ، ومع أسرته ، وزوجته كل ذلك فيه مراعاة وعناية بصحة الإنسان بجميع جوانب حياته ، وهذا دليل واضح على اهتمام الإسلام بالصحة العامة ، والرعاية ، فالإنسان مطالب في اليوم والليلة بخمس صلوات تدعوه إلى أن ينظف نفسه بالماء خمس مرات في أوقات مختلفة ... ، وفي أعمال الوضوء من غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ؛ محافظة على الطهارة والصحة ، ثم المضمضة التي تزيل ما تراكم في الفم من بقايا الأطعمة بين الأسنان ، فتسبب تسوساً يبخر منه الفم ، ويفسد ، وتحصل الأكلة في الأسنان ، وفي مشروعية السواك والتأكيد على استعماله والحث عليه ، كل هذا فيه أكثر دلالة على بقاء صحة الأسنان واللثة على أحسن وأكمل منظر وقوة(2) .
ـــــــــــــــ
( 1 ) " فضل علماء الإسلام على الحضارة الأوروبية " ( ص 204 ) .
( 2 ) " المنهج السوي والمنهل الروي " ( ص 28 ، 29 ) .
وهذا قليل من كثير ، ولعلنا نبحث هذا الموضوع بأوسع من ذلك في غير هذا الموضع إن شاء الله .
· أمـــر السـنــة بـالــتـــــداوي :
في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل من داء ؛ إلا أنزل له شفاء " ، وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " ، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي فقال : " عباد الله تداووا ؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، غير داء واحد . قالوا : وما هو ؟ قال : الهرم "(1) .
وقال ابن القيم – رحمه الله – في قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء " تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء ، والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه برفع الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليائس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سبباً لقوة الأرواح الحيوانية والنباتية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حامل لها ، فقهرت المرض ودفعته ، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء ، دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه ، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الدواء واستعمله ، وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله "(2) .
· الإرشاد والــوصـــيــة بالطـبـيـــب الأحـــــذق :
أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن خالته سعد بن أبي وقاص – عندما مرض – أن يطلب الحارث بن كلدة الثقفي – الذي اشتهر بالطب في زمنه – وأخبروه أنه مفؤود ، وأن عليه أن يستعمل الدواء الذي وصفه له .
وأمر صلى الله عليه وسلم بتضمين الطبيب إذا لم يكن طبيباً
ـــــــــــــــ
( 1 ) أخرجه أحمد في " مسنده " ، والبخاري في " الأدب المفرد " ، والترمذي في " سننه " ، وابن ماجه في " سننه " ، وقال الترمذي : " حديث حسن صحيح " .
( 2 ) " زاد المعاد " ( 4 / 17 ) .
حاذقاً ، بل ادعى الطب ادعاء وتشبع بما لم يعط كأكثر عطاري وعشابي زماننا – عياذاً بالله - ، قال صلى الله عليه وسلم : " من تطبب ولم
يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن "(1) .
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يوصي بالأحذق من الأطباء ، وبالأحذق من الحجامين ، وقد احتجم وأمر أمته بالحجامة(2) .
· عـــنـــاية العـــلـمــاء بالـــطــب النبوي :
جمع العلماء ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث متعلقة بالطب ، وأفردوا لها أبواباً في كتبهم ، وقد أفردوا في الطب كتباً مستقله ، سميت ( بالطب النبوي ) جمعوا فيها الأحاديث الورادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب الطب المختلفة .
وأول من أفرد رسالة في حفظ الصحة ، هو الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن زين العابدين بن الحسين ، وهي رسالة وضعها بناء على طلب من المأمون العباسي .
ثم تبعه الفقيه الحجة الأديب البغوي عبد الملك بن حبيب الأندلسي السلمي ، المتوفي سنة ( 238 هـ ) ، وكتابه مطبوع بتحقيق وشرح الدكتور البار ، طبع دار القلم – دمشق ، والدار الشامية – بيروت .
كما ألف في الطب ابن أبي عاصم المتوفى ( 287 ) ، وكتابه " الطب والأمراض " ، وألف أبو نعيم الأصبهاني ، المتوفى ( 430 هـ ) كتاباً في الطب النبوي ، احتوى كتاب ابن السني ، وأضاف إليه أشياء أخرى كثيرة ، ولا زال الكتاب مخطوطاً .
ثم ألف الموفق عبد اللطيف البغدادي " شرح أربعين حديثاً من سنن ابن ماجه " سمّاها " الأربعين الطيبة " حققه د. عبد المعطي قلعجي ، وفيها تصحيفات قبيحة أسأت للكتاب وخصوصاً لناشره ومحققه
كما ألف ابن طرخان الحموي كتاب " الأحكام النبوية في الصناعة الطبية " شرح فيه أربعين حديثاً مما اتفق عليه الشيخان من الأحاديث الواردة في الطب ، وهو مطبوع بمصر .
ـــــــــــــــ
( 1 ) أخرجه أبو داود ( 4 / 195 رقم 4586 ) ، ات وابن ماجه ( 2 / 1148 رقم 3466 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 4 / 241 رقم 7034 ) .
( 2 ) يُنظر كتابي " منهج السلامة فيما ورد في الحجامة " وهو يعد لطبعة ثانية مزيدة ومحققة ولعله يقع في ضعف حجمه الأول بعون الله وتوفيقه .
وألف الإمام ابن قيم الجوزية كتاب " الطب النبوي " ضمن كتابه الكبير " زاد المعاد في هدى خير العباد " طبع مؤسسة الرسالة ، ثم طبع المجلد المستقل بالطب النبوي – وحده – مرات .
وللإمام الذهبي كتاباً في الطب النبوي طبع على هامش " تسهيل المنافع " ، ثم طبع مفرداً في القاهرة - مطبعة الحلبي - ، ثم طبع محققاً .
ثم ألف الإمام السيوطي كتاباً في الطب سماه " المنهج السوي ، والمنهل الروي في الطب النبوي " ، بتحقيق الأهدل – طبع دار أسامة .
ولا زال التأليف في الطب النبوي وربطه بالطب الحديث قائماً ؛ فهو علم تتوجه أنظار الباحثين والمهتمين إليه ، ونسأل الله تعالى أن نرى اليوم الذي يُدرّس فيه هذا العلم في الجامعات والمعاهد ، ويتخصص فيه أفراد يداوون عباد الله في عياداتهم ، العامة والخاصة ، وما ذلك على الله بعزيز .