حينما يطرق المرض بيت الزوجية
د. فيصل بن سعود الحليبي
حُلُمٌ وادع يأسر مخيلة العروسين، تحلق أطياره الجميلة في سماء فكرهما العابق بالحب والأمل، وترقب أرواحهما إشراقة اللقاء، اللقاء الهانئ الذي لا يكدره تعب ولا ينغصه نصب! به تسافر النفوس بمن أحبت سفر الألفة والمودة، والحنان والرحمة … يا له من حُلُمٍ تتكرر فصوله في أمسيات الانتظار، على مسرح الخيال، وخلف ستار السعادة..
وكم هي الأحلام الجميلة كثيرة، غير أننا لابد أن نصارح أنفسنا بأن هذه الدنيا مهما أسرّتنا فلابد أن تحزننا، ومهما أسعدتنا فلابد أن تشجينا، وأنه لا سعادة تامة إلا بلقاء الله في جنته، هناك تكمل الفرحة، وتتم البهجة.
والفأل بحياة زوجية طيبة من أروع وسائل نجاحها وبركتها؛ لأن الفأل كله خير، غير أن معرفة الواقع أمر ينبغي ألا نجهله أو نتناساه، حتى تكون النفوس أكثر استعدادًا لتقبله والتعامل معه، فإن من الأمور التي قد تغيب عن العروسين أن الحياة التي ينتظرانها بكل الشوق لابد أن يعتريها النقص والتعب، والمرض والنصب، ولا يعني هذا أبدًا أن يضع الزوجان هذه الهموم الملازمة لحياة كل إنسان نصب أعينهما، فتتراجع خطواتهما عن الفرح والحبور.. كلا.. وإنما لابد من الاستعداد النفسي لكل طارئ أو عارض.
والمرض واحد من نقائص هذه الدنيا وابتلاءاتها، فكيف لو طرق المرض باب الزوجية، كيف سيكون حالهما؟
نعم.. سيقل الأنس.. وتتضاءل المتعة.. غير أن المرض وإن كان سببًا في ذلك إلا أنه وسيلة للألفة مغبون فيها كثير من الأزواج والزوجات على سواء!
إنني أجدها فرصة ثمينة لتدفق مجرى الحنان بين المحبين، فكم تخفف الشكوى بينهما فيه وجع المرض وآلامه، وكم تتحول الآلام بينهما إلى جسر من العطف والسكن.
وهاهي ذي عائشة - رضي الله عنها - ألمّ برأسها ألمٌ فصاحت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قائلة:
(وَارَأْسَاهْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وكان قد أرهقه مرض الموت ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلِيَاهْ … فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ …) رواه البخاري.
فتأمل كم تخفف كلمات الشكوى من وجع المصاب، لتترك بعدها أثر العافية إن كان فيها رجاء، إنها تنقش في القلوب الصافية أجمل عبارات الوفاء في وقت البلاء.
ويالها من لفتة حانية مغرقة في الحب والرحمة حينما تفيض مشاعر الحبيب على حبيبه في مصابه ليضع يده على مكان الألم ليتمتم بكلمات الله فيتلوها عليه، وليلهج بأدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - لحبيبه بالشفاء، فقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي؛ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا) رواه مسلم.
والزوجان حينما يتبادلان الحنان والعطف في رخائهما تحن أرواحهما لبعضهما في الشدائد والملمات، فلا تجد نفسيهما الأمان إلا حينما يجمعهما ظل واحد، فلا أعلم والله كيف أصف نداءات النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبراته المؤثرة وهو يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا، يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ) رواه البخاري.
وحينما حانت ساعة الوداع لم تملك عائشة - رضي الله عنها - إلا أن ترد للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من حنانه عليها؛ فإنه حينما مَرِضَ مَرَضَ موته وثقل أخذت بيده لتصنع به مثلما كان يصنع بها في مرضها، لكن لقاء الله كان أحب إليه من كل شيء، حتى حكت عائشة - رضي الله عنها - منظر الوفاء هذا فقالت: فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لِأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى) رواه مسلم.
والمرض في بيت الزوجية منحة في ثوب محنة، تفوز فيها النفس الطيبة بين الزوجين بالمآثر الرائعة التي لا تنسى، والمواقف الحنونة التي لا تمحى، وتأملا أيها الزوجان الكريمان غبطة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بهذه المآثر لما كانت أكثر حنانًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بها ألصق وأحب، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ) رواه البخاري.
إنه في مرضه يحنُّ إليها، وتحنُّ إليه، وتجعله بين سحرها ونحرها، وتشعر بما في نفسه، وتسأله عما في خاطره، لتلبيه له حتى تمزج ريقها بريقه، إنه رسمٌ إبداعي جذّاب للوحة المرض الأليمة ولكن بريشة الحنان وألوان الألفة.
ولندلف إلى بيت الصبر، بيت نبي الله أيوب - عليه السلام - المبتلى بمرضه، لا لنقف على صبره، فذاك صبر ضرب به المثل، ولكن لنرى كيف صبرت زوجته على بلائه، فإنه حينما طال مرضه عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأُخرج من بلده، وأُلقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، حتى ضعف حالها، وقلّ مالها فصارت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقوم بأوده، وهي صابرة معه على ما حلّ بهما من فراق المال والولد، وما آل إليه حالها في مصيبة مرضه، وضيق ذات اليد وخدمة الناس، بعد السعادة والنعمة والخدمة، ولمّا أنف الناس من خدمتها خوفًا على أنفسهم من بلاء زوجها ولم تجد من تخدمه باعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب - عليه السلام -، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناسًا، فلمّا كان من الغد ولم تجد أحدًا تخدمه، باعت ضفيرتها الأخرى بطعام فأتته به، فأنكره وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا قال في دعائه: {رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين**.
فأي زوجة هذه التي تضحي بحياتها كلها من أجل زوجها المريض، إنها كما قال ابن كثير: امرأة صابرة محتسبة مكابدة صديقة بارة راشدة - رضي الله عنها -.
غير أن الزوجة لمّا كانت أكثر تعرضًا للمرض سواء كان حيضًا أو نفاسًا أو أعراضًا لهما فإنني أجد أن الزوج له النصيب الأوفر من مراعاة زوجته في تعبها ونصبها، ولو لم يكن عليها إلا وهن الحمل لكفاها نصبًا وإرهاقًا.
فإلى كل من ضاق بمرض شريك حياته، أو ملّ من طول انتظار العافية، أو تردد في نشر جناح العطف على حبيبه.. تذكر أن الحياة مواقف فاكسبها لنفسك، أو لحبيبك، أو لكما معًا.
منقول
المحب في الله
ــــــــــــــــــــــ
نشر في مجلة الأسرة في عدد محرم 1424هـ.
16/4/1423هـ