يرى علماء النفس أن الأسباب المباشرة التي يغلب فيها التاثير العقلي من الصعب جدا تعريفها وتحديدها ، لكونها تتطلب جهد مضني في تتبع حياة المريض في أدوارها المختلفة ، وخاصة في دور الطفولة الأولى ، التي أثبتت التجارب أن كثيرا من الأمراض العقلية والعقد النفسية تبذر فيه بذورها . ولا يمكن تحديدها على معالم مرض إلا العالم النفسي الخبير الماهر ، الذي يعرف أساليب المعالجة النفسية المختلفة .
وإذا كانت أكثرية هذه الأسباب تعود في النهاية إلى اضطرابات انفعالية ، وجب علينا أن نتحدث عن الانفعالات على اختلافها وتنوعها ضرورية لتكوين الشخصية ، ولابد منها للاحتفاظ بحياة عقلية متزنة ، مثلها في ذلك مثل القلب الذي إذا صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسد فسد الجسد كله
وإذا توقفت الانفعالات عن العمل ، ولم يظهر لها أثر في حياة الشخص ــ كما في بعض حالات الشيخوخة ــ والخمود العقلي ، تبع ذلك توقف العقل عن العمل ، أو على الأقل فسدت الحياة العقلية ، واعتراها شيء من الجمود والكسل .
ويذهب علماء النفس إلى أن كل انفعال هو قوة دافعة فعالة ، عميقة التأثير في السلوك الإنساني ، والانفعالات هي الدوافع الحيوية التي تصدر عنها أعمال الإنسان وأحكامه ، دون شعور منه في كثير من الحالات . ومن الثابت أنها هي وحدها المسيطرة على حياة الطفل ، ولو نظرت بدقة إلى أفعال الناس لوجدت أنها تعود في النهاية إلى الثورات الانفعالية ، التي هي مصدر الثورات الاجتماعية .
ومن المسلم به أن القوة الانفعالية هي التي توجه الإنسان إلى الخير ، وقد توجهه إلى الشر ، وأن السلوك الناتج عنها سواء بالنسبة للفرد ، أو بالنسبة للجماعة ، فقد يكون نافعا وقد يكون خطرا مضرا ، فثورة انفعالية قوية قد تهدد كيان العقل ، وثورة انفعالية حادة قد تؤدي بالأمة ، وتوردها موارد الهلاك ، وتجلب لها الخراب والدمار ، أو الذل والعار .
ولاسبيل إلى السلوك القويم إلا بتحكم العقل ، وضبط الإنفعالات وتوجيهها التوجيه المستقيم . ومن المعقول أن يكتسب الإنسان فضيلة ضبط النفس وأن يسيطر على انفعالاته ، إذا تمتع بالإرادة القوية ، لان الاستسلام للانفعالات ، والخضوع لها من صفات الطفل الظاهرة ، التي لاينبغي للبالغ أن يتصف بها .
ومن الطبيعي جدا أن يكون للانفعالات آثار ظاهرة في الجسم والعقل معا ، باعتبارها مرتبطة ارتباطا كليا بعضها ببعض ، فأي نزعة انفعالية مهما بلغت من القوة أو الضعف تترك خلفها بصمات وآثار جسمانية ملائمة ومنسجمة مع قوتها وضعفها . وهذا ما يعرف بالأثر الجسماني للانفعال .
وليس بمقدورنا أن ننكر أن العقل الإنساني مزود بقوة احتمال كبيرة يستطيع معها أن يحتمل النزوات الانفعالية القوية ، ويصمد لها مدة طويلة ، ولكنه مع ذلك قد يصيبه الوهن أمام الانفعالات الضعيفة التي تبقى مدة تقلقه ، وقد تسبب الانفعالات الضعيفة الطويلة الأجل ضعف في العقل ، فتوهن قدرته على الاحتمال ، فيكون عرضة للهرب أمام أي ثورة انفعالية حادة ، كون الانفعالات الضعيفة الطويلة الأجل أشد تأثيرا في العقل من الإنفعالات الحادة الوقتية .
ومما لاشك فيه أن قوى النفس الإنسانية وانفعالاتها ، تتطلب الانسجام والتوافق ، وذلك يعود إلى اختلاف النزعات الغريزية وتضاربها في الاتجاه ، فالغرائز الفردية قد تعارض الغرائز الاجتماعية ، مما يؤدي إلى نشوء تفكك الشخصية ، واضطراب الحياة العقلية فيختل ميزان العقل والجسم ، وتنشأ الأمراض العقلية أو الجسمية .
( في سبيل موسوعة نفسية / الدكتور مصطفى غالب )