كيف لا نخاف الله ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخوف يكون بمعنى العلم بالأمر الحاضر، كما في قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه {البقرة: 182**، ويكون بمعنى الظن في الأمر المستقبل لقوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به {البقرة: 229**، ويكون بمعنى القتال كما في قوله تعالى: فإذا جاء الخوف {الأحزاب: 19**، ويكون بمعنى المصيبة كما في قوله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به {النساء: 83**.
والخوف الذي نريد هو الخوف نفسه، الذي في قوله تعالى: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد {إبراهيم: 14**، ولمن خاف مقام ربه جنتان {الرحمن: 46**، وأما من خاف مقام ربه {النازعات: 40**.
لم نقصد الخوف الذي يكون برؤية الغرائب والعجائب، ولا الخوف من بطش جبار أو ظالم، ولا الخوف من سبع أو حية، فهذا خوف فطري، ولا نقصد الخوف من فراق الدنيا والضِّيعَ والأموال، فهذا خوف أصحاب الأهواء، إنما نريد الخوف الذي هو ركن من أركان العبادة، الخوف من الله، الخوف من جلال جبروته والوقوف بين يديه، الخوف من سؤاله وحسابه، الخوف من عذابه وعقابه، الخوف من زوال الحجج وقطع العتاب وزلل الأقدام، وظهور ما لم يحتسب، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون {الزمر: 47**، فتكون البشرى كما قال ابن عباس: "أبشر يا عدو الله بالنار" أو تكون "لا دريت ولا تليت ويضرب بمرزبة من الحديد لو نزلت على جبل لصار رمادًا". رواه أبو داود في السنة (4753)، وأحمد في المسند (18013)، وانظر صحيح الجامع (1671)، أو تكون أخذ كتابه بشماله من وراء ظهره"، فيقع الندم، ويصبح الهلاك أمنية، يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية {الحاقة: 25- 27** أو تخف الموازين، وتهون الأعمال، وتُسحب الأمهات في قعر النار، فأمه هاوية (9) وما أدراك ماهيه (10) نار حامية {القارعة:9- 11**، أو الطرد من حوض الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا شراب ولا ترحاب، إنما طرد وإبعاد، قائلاً: "سحقا سحقا لمن بدل بعدي". متفق عليه، رواه البخاري في الرقاق (6213) أو "تخطف كلاليب النار كل مسيء بعمله"، أو "يقول الرب الجليل: اخسئوا فيها ولا تكلمون {المؤمنون: 108**، فينقطع الرجاء، ويحل الجزع، ويستمر البلاء في النار وما هم منها بمخرجين {الحجر:48**. {صحيح الجامع (1671)**
الخوف من غير الله شرك أكبر
الخوف من غير الله تعالى، وهو خوف السر، أو خوف القلب بالغيب من نبي أو ملك أو ولي، أو الخوف عمومًا من ميت أو غائب، وهو شرك أكبر؛ لأن الخوف سرية قلبية، لا يطلع عليها إلا الله، فلا تكون إلا لله، وإذا كان لكل صفة من صفات الله تعالى عبودية خاصة بها، فصفات القهر والعظمة والجلال لها عبودية الخوف، فكيف يكون للمخلوق تلك العبادة الخاصة؟ وتلك الصفات إما هو مفتقر إليها وإما ناقصة عليلة فيه، بينما هي ثابتة بالكمال والجلال لله تعالى وحده، لا تشوبها شائبة ولا يعتريها نقص ولا يلحقها عدم.
ولذا كان صرف عُبّاد القبور تلك العبادة لغير الله من ملك أو نبي أو ولي تَعدٍّ وظلم ووضع للأمور في غير نصابها، ورفع للفقير الذليل إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، وقد أرادوا من ورائها تخويف الناس من أوليائهم وشركائهم، وإبطال دعوة التوحيد، وهم يعلمون أن أولياءهم لا قدرة لهم على دفع ضر ولا جلب نفع، وهذا التخويف أثر من آثار ظلمهم، وتخويف ناتج من هوس عقولهم: والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون {يوسف:21**.
وقد كان الكفار الوثنيون عباد الأصنام يخوفون أنبياء الله بغير الله تعالى، فقوم هود يخوفونه عليه السلام قائلين له: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء {هود: 53**، ومثل هؤلاء لا شك يستحقون الإنكار والتشنيع، ولذا رد عليهم هود قائلاً إني أشهد الله واشهدوا أني بريء {هود: 54**، وكذلك رد إبراهيم عليه السلام من قبل عليهم قائلاً: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا {الأنعام: 81**، فبين لهم أن هذا النوع من التخويف بغير الله تعالى شرك أكبر، يستوجب صاحبه الخلود في النار، إذ لا برهان لهم فيما يعملون.
خوف محرّم وليس شركا
ويلي هذا الخوف وهو فرع منه من جهة المعصية ما يكون مانعًا من فعل طاعة، دافعًا للوقوع في معصية الله، وهو محرم مبغض، كالخوف من بطش جبار، فيمنع من العبادة والطاعة، مثل هذا الخوف ينبغي ألا يُعبأ به لقول الله تعالى: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين {آل عمران: 175**، والمعنى كما قال ابن القيم: يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.
{بدائع الفوائد 2-463**
ويدفع هذا النوع من الخوف بقوله تعالى: حسبنا الله ونعم الوكيل وهو قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، كما قال ابن عباس فيما رواه البخاري في تفسير القرآن (4287): "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل {آل عمران: 173**.
الخوف مقام من مقامات الولاية
الخوف من الله حقيقة واقعة، يستشعرها القلب والجوارح على الدوام: قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين {الطور: 26**، فهو نزهة الفضلاء، وأمان الطائعين، ومخرج العاصين.
وقد خلق الله تعالى خلقًا لا يفارقهم الخوف من الله طرفة عين، وهم الملائكة الكرام، وقد ذكر الله تعالى في حالهم: يخافون ربهم من فوقهم {النحل:50**، وقال صلى الله عليه وسلم : "مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى". {حسن صحيح الجامع (5864**
وهذا الوصف ثابت للملائكة، حتى إن كفار قريش لم يكن يخفى عليهم ذلك، فهذا أمية بن أبي الصلت يصف الملائكة في شعره قائلاً:
فمن حامل إحدى قوائم عرشه
ولولا إله الخلق كَلَّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته
فرائصهم من شدة الخوف ترعد
فهم دائمًا خائفون، طامعون بعد الخوف والفزع في الأمان والرحمة: وهم من خشيته مشفقون {الأنبياء: 28**، وهم في مقام الخوف والخشية لا يقدرون على شيء غير ذلك، مسخرون في قدر الله، مقهورون تحت سلطانه؟ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون {التحريم: 6**، ويسبحون من خيفته: ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته {الرعد:13** تسبيحًا لا ينقطع بالليل ولا بالنهار: يسبحون الليل والنهار لا يفترون {الأنبياء:20**، وقد ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله إلى يوم القيامة، وروى ابن مردويه عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أطت السماء وحُقّ لها أن تئط والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح لله بحمده". {انظر صحيح الجامع 1020** وتسبيحهم يدل على جلال علومهم، وحسن تدبرهم، وقوة بلاغتهم وفهمهم وفصاحتهم.
فيقول بعضهم: "سبحانك على حلمك بعد علمك". ويقول بعضهم: "سبحانك على عفوك بعد قدرتك".
{تفسير ابن كثير 1-572**
وعلى تلك الصفة عبد الأنبياء صلوات الله عليهم ربهم تعالى ذكره: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين {الأنبياء: 90**، فلا تسأل عن وجلهم وفزعهم، ولا تسأل عن خشيتهم وإشفاقهم، فهم أعلم الخلق بالله، وأصدق الناس في الخبر عن الله، وأفصح الناس بالتعبير عن مراد الله، وأرغب الخلق في الهداية إلى طريق الله، وأزهد الناس فيما عند الناس، فهل يكون ذلك بغير الخوف والعلم؟ فمن وصف الله كما وصفوا؟ ومن عرف الله كما عرفوا؟ ومن قدَّر الله حق قدره كما قدروا؟ فالعلم بالله وأوصافه يطيل الخوف، ويوطن الوجل ويربي الخشية، ويدعو إلى التسبيح والإنابة، فكيف لو رأى عذابه وجنته رأي العين، كيف سيكون الخوف؟ وفي الحديث يسأل الرب ملائكته وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي قالوا يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول: هل رأوني؛ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول وكيف لو رأوني قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا وأكثر لك تسبيحًا قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون لا والله يا رب ما رأوها؟ قال: يقول فكيف لو أنهم رأوها قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة، قال: فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم. {متفق عليه، رواه البخاري في الدعوات عن أبي هريرة رضي الله عنه 5939**
خوف الرسول #
فأي خوف كان خوف الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد عاين النار وعذابها، ورأى الجنة ونعيمها؟ لا شك أنه خوف عظيم، ووجل كبير، ودموع وفيرة، ورعدة شديدة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "عرضت عليَّ الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا". {متفق عليه، رواه مسلم في كتاب الفضائل 4351**
خوف السلف
وعن خوف السلف لا تسأل، فخوفهم من الله آية، وبكاؤهم علم وحال وغاية، إذا ذكرناهم اهتدينا، وإذا وزناهم افتضحنا، فهم بقية الخير، بينما نحن أسأنا، وهم أصل العز ومنبع النصر بينما نحن ضعفنا، قوم اصفرت وجوههم من الخوف، ونحلت أجسامهم من الطاعة، وهانت عليهم أنفسهم فاحتقروها في جنب الله، وتمردت عليهم فساقوها رغمًا عنها في مراد الله، عدوا سيئاتهم وغفلوا عن حسناتهم، قوم لا تنقطع دموعهم كأنهم في مصيبة، ولا يقف رجاؤهم كأنهم لا يظنون في أنفسهم خيرًا، فهم بين الخوف والرجاء يتقلبون، فلا بالخوف ييئسون ولا بالرجاء يأمنون، وهم يعالجون الخوف بالرجاء قبل أن يبلغ حد اليأس، ويعالجون الرجاء بالخوف قبل أن ينقلب إلى الأمن، فالخوف والرجاء يستويان عند أكثر السلف، وبذلك قال الحسن وأحمد، وهذا أصح وأبلغ ممن فرق بينهما، ذلك لأن الخوف والرجاء عبادتان متعلقتان بصفات الله تعالى فمن أبطل واحدة منهما فقد عطل عبودية الصفة المتعلقة بها، فالخوف متعلق بصفات القهر، والرجاء متعلق بصفات الرحمة، ولابد للمؤمن أن يثبت الأسماء الربانية والصفات المتعلقة بها والمقتضيات والآثار الناتجة منها والعبادات المترتبة عليها، فمن جمع بين الخوف والرجاء أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف، قال صلى الله عليه وسلم : قال تعالى: "وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي".
{حسن: صحيح الجامع: 4332**
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف". {رواه الترمذي في الجنائز 905، وابن ماجه في الزهد 4251، وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4-135: قال الحافظ: إسناده حسن فإن جعفرًا صدوق صالح احتج به مسلم ووثقه النسائي وتكلم فيه الدارقطني وغيره**
فإن كان الخوف من الله هو طريق الأمن في الآخرة فهو طريق النصر في الدنيا والغلبة على أعداء الله تعالى، بل هو طريق الفهم عن الله تعالى وعن رسله وأنبيائه، ويكفي في ذلك ما فهمه رجلان من بني إسرائيل من قوله تعالى: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.
إن أقل الأسباب تغني في النصر ولو كان العدو من الجبابرة، وهذا وعد من الله، كما ظهر من الآية: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، وقد وصف الله تعالى الرجلين الناصحين بالخوف من الله من جهة وصيانة سر موسى عليه السلام دون غيرهما من جهة أخرى، قال تعالى: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما {المائدة: 2