إيمـان العجائز
عكاظ الثلاثاء 18/06/1428هـ ) 03/ يوليو/2007 العدد : 2207
نجيب عصام يماني
«اللهم أرزقنا إيماناً كإيمان العجائز»، عبارة سمعتها في طفولتي وأدركت معناها اليوم. كانت جدّتي لوالدي «بهية» تعيش بيننا، تقوم بأعمال كثيرة بالبراءة الفطرية التي خلق الله الخلق عليها، مردّدة أن البراءة هي الأصل والخطأ عارض لو عُرضت أفعالها على ميزان اليوم لكُفّرت وبُدّعت وزُندقت وقالوا عنها علمانية وصوفية وقبورية وليبرالية.
كانت تقرأ في كتاب صغير تحرص عليه كُتب على غلافه الأصفر «دلائل الخيرات» فيه صيغ من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء للأحياء والأموات، وقد رأيت من يصادر هذا الكتاب في المسجد الحرام وفي الأسواق ويقول إنه بدعة لا تجوز القراءة منه وعندما كانت تخرج لزيارة أقاربها تخفي الكتاب في بقشتها وتقول حتى لا يأخذوه.
كانت جدّتي تسمع الغناء وتطرب لدانات المطربة توحة وتميل إلى الحدري والمجرور والصهبة وتدمع عينها عندما تسمع الشحرورة تغنّي جينا الدار نسأل عالحبايب لقينا الدار تبكي عللي غايب. ترفض أن يستمع أحد إلى أغنية في سلم الطائرة للمرحوم طلال مداح أو سبحانو وقدرو عليك للمرحوم فوزي محسون عندما يسافر عزيز عليها.
كانت من المتابعين لمسرح التلفزيون ومحمد علي سندي قبل جهيمان حسب تصنيفها التاريخي. كانت ترتّب رحلات الصيف إلى الطائف مع الأهل والجيران والحارة في سيارات الأبلاكاش ونقضي الرحلة نغنّي ونضحك، نستمع إلى أحلى الأغاني من شنطة الأسطوانات التي كانت معها، لم تُصادر ولم يحرّم أحد عليها الغناء ويسمعهم أن الله سيصب في آذانهم براميل من رصاص.
تحرص على حضور الأفراح وعندما تعود تحكي لنا عن كاكا وعباجية والزفة والغطاريف وأهل الحارة وألعابهم والمعاشر والرفود ولم يحرّم عليهم أحد فرحتهم أو يصادر ضحكتهم.
كانت لديها آلة صغيرة تسميها المشقرة تحف بها الشعرات الزائدة في الحاجب والوجه مع شوية رماد للمتزوجين وترفضه لغيرهم وتقول حتى لا تروح طلعتهم يوم فرحتهم. ولم يقل لها أحد لعن الله النامصة والمتنمصة. علمت بفطرتها أنه قول ضعيف لابن مسعود موقوف عليه لا يرقى إلى مرتبة المرفوع شكّك في صحته ابن حجر في (فتح الباري)، مؤكدة أن اللعن يعني الطرد من رحمة الله ولا يمكن طرد من تتزيّن لزوجها من رحمته، وتقول أمكم عائشة عندها العلم ولم نسمع أنها تقول مثل هذا القول.
عندما كنّا نمرض كانت تدهننا بزيت زيتون وشوية رماد وتقول (وهي تلعب على أوتارنا النفسية) ليه نحتار وسيدي الرماد في الدار وتلفنا بجريدة لمدة دقائق نقوم بعدها وقد نسينا المرض، ولم يكفّرها أو يبدّع عملها أحد.
كانت في الحج تحرص على (الجوجو) وهو عبارة عن مجموعة مكسّرات بها بعض النقود المعدنية تُسكب على رأس الطفل في حضور أقرانه في جو من الضحك والسعادة يتذكره الطفل وأقرانه بقية العام، ولم يقل لها أحد اتقي الله فهذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
في الأحزان تذهب مثل الجميع مواسيةً ومعزّيةً ، وتقول الكل في حزن ولم أسمع من يأتي ليزيد من الأحزان ويعمّق من المصيبة مثل أيامكم هذه. لقد طردت إحداهن وهي غريبة عن الجميع أخذت تحدّث أهل الميّت عن كيفية العذاب وأطواق الحديد وكيف أن ميّتهم يهوى في النار سبعين خريفاً، وتقول الويل لها إن كانت تخرج كاشفة، الويل لها إن كانت تسمع الغناء، الويل لها إن كانت تحضر الأفراح كاسية عارية، جهنم الآن تفتح ألسنتها في انتظارها، لو أنها كانت تركب مع السائق وحدها وتسافر دون محرم وتذهب إلى الأسواق ليراها الرجال؛ حتى أُغمي على أهل الميتة وساد جو من الفوضى بعيداً عن حرمة الموت وقدسيته.
كانت تحكي لنا قبل النوم عن الصحابة وأخلاقهم وكيف أن سيّدنا عمر ندم واستغفر عندما تسلّق سور أحد المنازل ليكتشف المنكر وأفهمه أهل المنزل أن ما فعله هو المنكر، فللبيوت حرمات مصانة. كانت تقرأ وتكتب، وعندما أسألها أين تعلمت يا جدّتي، تقول لي وبكل فخر في الكتّاب مع أولاد الجيران وبناتهم وكانت تدرّسنا الفقيهة سعاد رحمها الله.
كانت تتسلى بالودع نجتمع حولها وتقول تعالوا نشوف مين حيزورنا اليوم وأبوكم إيش جايب معاه، نضحك ونتسلّى حتى إذا انتهت وضعت الودع في علبة وقالت قوموا صلّوا المغرب على أذان، ولم يكفّرها أحد ويقول عنها صوفية تحيي البدع.
كانت تصنع لنا العرائس والتماثيل وتقول ستكم عائشة كانت تلعب بالعرائس، ولم ينكر عليها رسول الله. كانت كل جمعة تبخّر المنزل باللبان والحبة السودة والكزبرة، تشرد الشياطين وتذهب العين والحسد. تقول بعد جيهمان تغيّر الحال، أصبحنا غرباء لم نعد نصلّي في صحن الطواف ونسمع من يهدّدنا ارجعي وراء يا مرة، غطّي وجهك يا حرمة، وكيف أغطي وجهي وأنا مالكية حتى زيارة النبي بطّلتها، فيها حواجز وأسوار وطوابير وشخط وزعيق، أصلّي عليه من البيت.
أعمال كثيرة تمر أمامي وكأني أعيشها اللحظة. أيامها بسيطة وجميلة، تحمد الله على نعمه الكثيرة. أتاها اليقين وهي آمنة مطمئنة الكل يدعو لها بالرحمة والمغفرة تركت لنا من بعدها أشياء جميلة لا يمكن أن تُنسى، ويوم وقفت في معلاة مكة على قبرها أقرأ ياسين تذكرتها وذرفت دمعة حزن وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يأتي زمن يتمنّى فيه الحي أن يكون مكان الميّت في قبره» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
تعليقي :
كنا في جهل فأحيانا نور الإسلام من جهلنا الذي كنّا فيه .
ما أشبه قوله بقول السابقين كما قال الله سبحانه عنهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ )[الزخرف : 22]
نحن يا نجيب من نتمنى أن نكون مكان الميت في قبره ، عندما نقرأ مقالاتك ...
ننتظر تعليقات الأخوة ، و ردودهم الشرعية على ما ذكره ذلك الكاتب في هذا المقال ...
و لنا عودة بإذن الله