قياس بئر زمزم
اهتم كثير من السابقين بذرع زمزم من علوها إلى قاعها وسعتها وما فيها من العيون . يقول الأزرقي : " كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها 60 ذراعا وفي قعرها ثلاث عيون عين حذاء الركن الأسود ، وعين حذاء أبي قبيس والصفا ، وعين حذاء المروة . ثم كان قد قل ماؤها جدا حتى كانت تجم في سنة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ومائتين ، فضرب فيها تسعة أذرع سحا في الأرض في تقوير جوانبها ثم جاء الله بالأمطار والسيول في سنة خمسة وعشرين ومائتين فكثر ماؤها وقد كان سالم بن الجراح قد ضرب فيها في خلافة الرشيد هارون أمير المؤمنين أذرعا وكان قد ضرب فيها في خلافة المهدي أيضا . وكان عمر بن ماهان – وهو على البريد والصوافي – في خلافة الأمين محمد بن الرشيد قد ضرب فيها وكان ماؤها قد قل حتى كان رجل يقال له : محمد بن مشير من أهل الطائف يعمل فيها قال : أنا صليت في قعرها فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا ذلك كله بنيان وما بقي فهو جبل منقور وهو تسعة وعشرون ذراعا وذرع حبك زمزم في السماء ذراعان وشبر وذرع تدوير فم زمزم أحد عشر ذراعا وسعة فم زمزم ثلاثة أذرع وثلثا ذراع ، وعلى البئر ملين ساج مربع فيه اثنتا عشرة بكرة يستقى عليها " .
وقال الإمام الفاسي " وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري ارتفاع فم زمزم عن الأرض وسعته وتدويره فكان ارتفاع فمها في السماء ذراعين إلا ربعا وسعته أربعة أذرع ونصف وتدويره خمسة عشر ذراعا إلا قيراطين كل ذلك بذراع الحديد المشار إليه " .
وروى ياقوت الحموي في معجم البلدان عن محمد بن أحمد الهمذاني أنه قال . " وكان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا وفي قعرها ثلاث عيون ، عين حذاء الركن الأسود ، وعين حذاء أبي قبيس والصفا ، وأخرى حذاء المروة ، ثم قل ماؤها جدا حتى كانت تجم وذلك سنة 223 أو 224 فحفر فيها محمد بن الضحاك ، وكان خليفة عمر بن فرج الرخجي على بريد مكة وأعمالها تسعة أذرع ، فزاد ماؤها واتسع ، ثم جاء الله بالأمطار والسيول سنة 225 فكثر ماؤها . ثم قال وذرعها من رأسها إلى الجبل المنقور في الجبل وهو تسعة وعشرون ذراعا ، وذرع تدويرها أحد عشر ذراعا وسعة فمها ثلاثة أذرع وثلثا ذراع " .
ويلاحظ هنا وجود فرق في ذرع زمزم بين الأزرقي والفاسي والهمذاني . ويرجع ذلك إلى اختلاف الأذرع التي قاسوا بها البئر وطول الزمن الذي بينهم تعرضت خلاله البئر لحوادث وطوارق من طم وحفر وعمارة وإصلاح وتغيير.
وقد وصف أبن جبير ذرع زمزم في عصره وذلك سنة 578هـ فقال :
" وعمقها إحدى عشرة قامة حسبما ذرعناه ، وعمق الماء سبع قامات .
أما عن العيون الثلاثة التي ذكر الأزرقي وجودها في قعر زمزم فقد ذكر الفاكهي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : " فأي عيونها أغزر ؟ قال العين التي تخرج من قبل الحجر قال صدقت " .
وروى الدار قطني في سننه عن ابن سيرين أن زنجيا وقع في بئر زمزم فمات ، فأمر به ابن عباس فأخرج ، وأمر بها أن تنزع فغلبتهم عين جاءت من الركن ، فأمر بها فسدت بالقباطذي والمطارف ونحوها حتى نزحوها فلما نزحوها انفجرت عليهم .
وأخرج الطماوي في شرح معاني الآثار ، وابن شيبه بإسناد صحيح عن عطاء : " إن حبشيا وقع في زمزم فمات . فأمر عبد الله بن الزبير بنزح مائها فجعل الماء لا ينقطع ، فنظر فإذا عين تجرى من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير حسبكم . وقال العمري في مسالك الأبصار : وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله فوجدوا ماءها يثور من ثلاث أعين أقواها ماء عين من ناحية الحجر الأسود ، رواه الدار قطني " .
وفي بداية عام 1400هـ عندما كلفت بتنظيف بئر زمزم وتطهيره قمنا بتركيب مضخات كبيرة لضخ جميع المياه الموجودة في البئر مما أتاح لنا أخذ قياسات دقيقة للبئر ومشاهدة جدرانه ومصادر المياه الرئيسية للبئر بعد ضخ المياه إلى مستوى أدنى من هذه المصادر وتصويرها سينمائيا وفوتوغرافيا . وقد قام الغواصان اللذان كانا معنا في تنظيف البئر بقياس عرض البئر كل حوالي أربعة أمتار وتبين لنا أن البئر من الداخل محكم التلبيس بعمق أربعة عشر مترا وثمانين سنتيمترا من فوهة البئر وتحت هذا العمق يوجد فتحتان لتغذية البئر إحداهما متجهة إلى الكعبة المشرفة والثانية إلى جياد ثم جزء منقور في الجبل بعمق 17.20 مترا ( الشكل رقم 5 ) .
ومن الملاحظ أن هذه القياسات قريبة من القياسات التي وردت في الروايات التاريخية التي اتفق معظمها على أن " غورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا ( 22.5 مترا ) لذلك كله بنيان وما بقي فهو جبل منقور وهو تسعة وعشرون ذراعا ( 16.25 مترا ) . ويعود الفرق في عمق الجزء المبنى بين الوقت الحاضر والروايات التاريخية إلى أن بئر زمزم الآن منخفضة عن الكعبة المشرفة تحت سطح أرضية المطاف بينما كانت في السابق فوق سطح الأرض .
أما بالنسبة للجزء المنقور في الجبل فيتبين أن هناك فرقا يقدر بحوالي متر واحد وذلك نتيجة لعملية تنظيف البئر .
ويختلف قطر البئر باختلاف العمق فهو يتراوح بين 1.5 مترا ، 2 مترا ويصل القطر عند التقاء الجزء المبنى بالجزء المنقور بالجبل إلى 1.80 مترا حيث توجد المصادر الرئيسية للبئر وهي مبنية بصفين من الحجارة وهي على النحو التالي :
1- المصدر الرئيسي : وهو عبارة عن فتحة تتجه جهة الكعبة المشرفة في اتجاه الركن المواجهة لحجر إسماعيل وطولها 45 سم وارتفاعها 30 سم وبها غور إلى الداخل ويتدفق منها القدر الأكبر من المياه . وهذا يتفق مع ما ورد في الروايات التاريخية .
2- المصدر الثاني : وهو عبارة عن فتحة كبيرة بطول 70 سم ومقسومة من الداخل إلى فتحتين وارتفاعها 30 سم باتجاه جياد .
3- المصادر الفرعية : وهي فتحات صغيرة بين أحجار البناء تخرج منها المياه . توجد خمس منها في المسافة التي بين الفتحتين الأساسيتين وقدرها متر واحد كما يوجد 21 فتحة أخرى تبدأ من جوار الفتحة الأساسية الأولى وباتجاه جبل أبي قبيس والصفا والمروة حتى تصل إلى الفتحة الثانية وهذه الفتحات لا توجد على مستوى واحد ولكنها على مستويات مختلفة وتتدفق منها المياه بكميات متفاوتة ( الشكل رقم 6 ) .
ومن الملاحظ أن الروايات التاريخية تحدثت عن وجود ثلاث عيون " عين حذاء الركن الأسود وعين حذاء أبي قبيس والصفا وعين حذاء المروة " بينما تبين بالمشاهدة أن هناك مصدرين أساسيين فقط أحدهما تجاه الكعبة والآخر تجاه جياد أما المصدر الثالث التي قالت الروايات التاريخية أنه جهة جبل أبي قبيس والصفا فقد وجدت بدلا منه تلك الفتحات الصغيرة بين أحجار البناء وعددها 21 فتحة . ومن المحتمل أنه عند قفل هذا المصدر عند إصلاح بئر زمزم سنة 1028 هـ تفجرت المياه من بين حجارة البناء . فقد ذكر الغازي في تاريخه عن العلامة الخضراوي رضي الله عنه في " تاج تواريخ البشر " أنه في شهر رمضان 1028هـ وقع في بئر زمزم أحجار كثيرة من الجهة الشامية والغربية وقد أصلحت في يوم الاثنين الرابع من شهر شوال سنة 1028هـ وتم البناء يوم السادس عشر من شوال فما باشر الماء جعل رمضا من غير جبس ولا نوره وما لم يباشر الماء جعل بالنورة والجبس . " .
وقد تبين من فحص الجزء الصخري في بئر زمزم أن هناك أجزاء منحوتة طوليا في هذا الصخر أربعة منها أسفل المصدر الرئيسي وأربعة بين المصدرين الرئيسيين في مسافة متر واحد وأثنى عشر في المسافة التي توجد فيها الفتحات الصغيرة . ويختلف غور هذه الأجزاء المنحوتة فبعضها غائر يصل إلى عمق ست سنتيمترات وبعضها سطحي . ومن المحتمل أن هذا النحت الطولي في الصخر حدث نتيجة لسقوط المياه من المصادر بصفة مستمرة أو نتيجة لاحتكاك حبال الدلاء فقد ذكرت الروايات التاريخية انه كانت توجد اثنتا عشرة بكرة عند فم البئر لجلب الماء أو قد تكون نتيجة لهذين العاملين معا .
وتوضح الرسمه المرفقة شكل البئر والذي يطابق نسبيا شكل البئر كما وصفته الكتب التاريخية .
ومن الواجب الإشارة أنه حدث اختلاف في تحديد الاتجاهات الرئيسية لمصادر منابع مياه زمزم بين المصلحة ومركز أبحاث الحج ، وقد علمت بأن المركز سوف يقوم بدراسات دقيقة تحدد هذه الاتجاهات بدقة في المستقبل.