قال تعالى عن رسوله الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ** (الأنبياء : 107 )
وفي الحديث: قيل: يا رسولَ اللهِ! ادْعُ على المشركين. قال: ((إني لم أُبعَثْ لعَّانًا. وإنما بُعِثتُ رحمة))[1].
وفي الحديث أيضا لما قدم الطُّفيلُ بنُ عمرو الدَّوسيُّ وأصحابُه فقالوا يا رسولَ اللهِ إنَّ دَوسًا قد عصتِ وأبتْ فادعُ اللهَ عليها قال أبو هريرةَ فرفع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يدَيه فقلتُ هلكَتْ دوسٌ فقال: ((اللهمَّ اهدِ دَوْسًا وائتِ بها))[2].
وهذه الرحمة لا تتعارض مع ما يجب على المؤمن من براءة وبغض لأهل الكفر والمعاصي.
فهذا إبراهيم عليه السلام الذي مدحه الله بحلمه على أهل الكفر، والذي قال لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً** (مريم : 45 )، فكانت رحمته بأبيه - أن يكون من أهل النار - رحمة عظيمة.
ومع ذلك لم تمنعه رحمته وحلمه بأبيه وقومه أن يعلنها لقومه صراحة فقال هو ومن معه: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ** (الممتحنة : 4 )، وقد استثنى بقوله حتى تؤمنوا؛ لأنه لم يفقد الأمل في أن يمن الله عليهم بالهداية.
وأما قول نوح عليه السلام: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً** (نوح : 26 )، كان بعد أن دعاهم عمرا طويلا جدا ولم ييأس من هدايتهم حتى نزل قول الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ** (هود : 36 )[3].
ولا تتعارض هذه الرحمة التي كانت في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي والكفر لا تتعارض مع ما جاء في صحيح البخاري قال: بَينا النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم ساجدٌ، وحولَه ناسٌ من قريشٍ، جاء عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيطٍ بسَلَى جَزورٍ، فقذَفه على ظهرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلم يرفَعْ رأسَه، فجاءتْ فاطمةُ عليها السلامُ فأخذَتْه من ظهرِه ودعَتْ على مَن صنَع، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( اللهم عليك الملأَ من قريشٍ، أبا جهلِ بنَ هشامٍ، وعُتبَةَ بنَ ربيعةَ، وشَيبَةَ بنَ ربيعةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، أو أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ ) . - شُعبَةُ الشَّاكُّ - فرأيتُهم قُتِلوا يومَ بدرٍ، فأُلقوا في بئرٍ غيرَ أُمَيَّةَ أو أُبَيٍّ، تقطَّعَتْ أوصالُه، فلم يُلْقَ في البئرِ .
فهذا يُخرَّج على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع بالهلاك وإنما دعى عليهم أن يتوالهم الله بما شاء، أو يُخرَّج بأن ذلك بعد أن أوحي إليه أنهم من الهلكى، كحال قوم نوح.[4]
فإن قال قائل: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادَ أن يَدْعُوَ على أحدٍ ، أو يدعوَ لأحدٍ ، قنَتَ بعدَ الركوعِ ، فرُبَّما قال ، إذا قال: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه : اللهمَّ ربَّنا لك الحمدُ ، اللهم أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدَ ، وسلمةَ بنَ هشامٍ ، وعَيَّاشَ ابنَ أبي ربيعةَ ، اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر، واجعلْها سنين كسني يوسفَ . يَجْهَرُ بذلك ، وكان يقولُ في بعضِ صلاتِه في صلاةِ الفجرِ: اللهم العَنْ فلانًا وفلانًا . لأحياءٍ مِن العربِ[5].
فإنه صلى الله عليه وسلم توقف عن ذلك بعد أن نزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ** (آل عمران : 128 ).
وعلى هذا فالمؤمن المتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسط بين طرفين:
* طرف يوالي أعداء الله من الكافرين وأصحاب المعاصي ويحبهم بدعوى أن ذلك من البر الذي أمرنا به، وهذا مجانب للصواب، يخشى عليه من النفاق.
* وطرف آخر على النقيض لا يحمل لهم في قلبه مثقال ذرة من رحمة، يكاد يتألى على الله فيهم، يلعنهم صباح مساء، وملأ قلبه غلا وحقدا، هذا الغل وهذا الحقد يأكل من دينه وهو لا يدري، وهذا يخشى عليه من الرياء.
* وأما أهل الوسط فإنهم يعلمون أن رحمة الله واسعة تسع كل عاص وكافر وأنه إليه المصير والمرجع وهو سبحانه أعلم بهم، إن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، فيأملون من الله أن يتوب عليهم، ويشفقون على أهل الكفر والمعاصي من النار كما يشفقون على أنفسهم من النار، ويطيعون الله فيهم فيبغضونهم في الله ويبغضون أعمالهم التي لا يحبها الله، ويقومون بدعوتهم بالمعروف كما يحب الله، ولا يتلفظون إلا بالحق واللطف والرفق، فتمتلأ قلوبهم حلما ورحمة، أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء موعودون بقوله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن، موعودون بتعظيم أجورهم، موعودون بسلامة الصدر وكفى بها نعمة.
منقول