وأنا لما كتبت لك عن حال من هو بعيد عن الله ، ليس هذا معناه أن الله لا يقبل من عباده التوبة، بل تابعي ما سأكتبه لك ، والله ستقرئين العجب العجاب
قال الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). الأعراف 156-157
الرحمن الرحيم، اسمان كريمان من أسماء المولى جل وتعالى، والرحمة صفته، صفة حقيقية تليق بجلاله سبحانه، وهي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العُلى. قال الله تعالى في محكم تنـزيله في شأن ذكر هذه الصفة، أو ذكر شيء من آثارها على خلقه: (إنه هو التواب الرحيم)، وقال تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم)، وقال جل وتعالى: (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم)، وقال عز وجل: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم)، وقال تعالى: (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على صفة الرحمة.
الله جل وعلا رحيم بنا، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا. رحمة الله تعالى وسعت وشملت كل شيء، العالم العلوي والعالم السفلي، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى، المسلم والكافر، البرّ والفاجر، الظالم والمظلوم، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار، قال الله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء).
الله جل وتعالى فتح أبواب رحمته للتائبين والعاصين والمنحرفين، ما عليهم إلا أن يقبلوا على مولاهم، قال الله تعالى:" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" الزمر 53
. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنة أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد".
إن الله جل وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، أخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها".
إن رحمة الله تغلب وتسبق غضبه. روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، إن رحمتي تغلب غضبي" وفي رواية: "إن رحمتي سبقت غضبي".
الله جل ثناؤه له مئة رحمة، كما في حديث أبي هريرة عن البخاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة". وفي رواية: "كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة". وفي رواية: "إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها". وفي رواية: "حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
إن العبد كلما كان أقرب إلى الله تعالى، كانت رحمة الله به أولى، أي كلما كان العبد طائعاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، عاملاً بما أمره الله ورسوله، منتيهاً عما نهاه الله ورسوله عنه، كان استحقاقه للرحمة أعظم، قال الله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). وقال عز وجل: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقال سبحانه: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). وقال تعالى: (إن رحمت الله قريب من المحسنين).
والله عندما إستوى على عرشه كتب كتاباً هو عنده وضعه على عرشه "إن رحمتي سبقت غضبي"
إن من رحمة الله أن تحس برحمة الله أنها تضمك وتغمرك وتفيض عليك، إن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة، والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها، ومن ثم فلا خوف من أحد، ولا رجاء في أحد، ولا مخافة من شيء، ولا رجاء في شيء، إنما هي مشيئة الله، ما يفتح الله فلا ممسك، وما يمسك فلا مرسل، والأمر مباشرة إلى الله.
إنه ما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه بلا واسطة، وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي إخلاص، فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه، فما أحد بمرسلٍ من رحمة الله ما أمسكه الله. (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) هذه الحقيقة لو استقرت في قلب المسلم استقراراً صحيحاً لصمد كالطود أمام الأحداث وأمام الأشخاص وأمام القوى والقيم والاعتبارات، ولو تضافر عليه الإنس والجن.
وتتجلى رحمة الله في تجاوز الله سبحانه عن سيئات العبد إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب, وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى رحمة الله في مجازاته عن السيئة بمثلها, ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء، ومحو السيئة بالحسنة، وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه, في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
ومن حديث أبى ذر رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال: " ما من عبد قال: لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة”. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق، وإن زنى وإن سرق ! وإن زنى وإن سرق" ثم قال الرابعة: "على رغم أنف أبى ذر".
من حديث عتبان بن مالك رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال: “ إن الله حرم النار على من قال: لا إله إلا الله، يبتغى بذلك وجه الله
وفيهما من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير وزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة" وعن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلا أتى بيهودي أو نصراني حتى يدفع إليه فيقال له: هذا مكانك من النار".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يارب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب فيقول: بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول أحضروه، فيقول: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة. قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شئ مع اسم الله عز وجل".
... أبعد كل هذا مازلت تيأسين من رحمة الله !!!!!
يتبع بإذن الله