مقام عظيم: اخنق خنقَك، فأنت تعلم أن قلبى يحبك
ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه وسلسلة الهوى وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أَسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه وناصره ووليه، عالم بأن نجاته فى يديه وناصيته بين يديه وأَنه لو شاءَ طرده عنه وخلَّصه من يديه، فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفات إلى وليه وناصره والتضرع إليه والتذلل بين يديه، وكلما أراد اغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأْفته ورحمته فانجذبت دواعى قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه، كعبد قد شدت يداه إلى عنقه وقدم لتضرب عنقه وقد استسلم للقتل، فنظر إلى سيده أمامه وتذكر عطفه ورأْفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة طرح نفسه بين يديه ومد له عنقه وقال: أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتى بين يديك، ولا خلاص لى من هذا العدو إلا بك وإنى مغلوب فانتصر.
فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف، وفوقه مشهد أجلَّ منه وأعظم وأخص تجفو عنه العبارة، وإن الإشارة إليه بعض الإشارة، وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل تعبر منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده، فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد أَيقن العبد أنه فى قبضته وأنه هو قاتله لا غيره، وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورحمته ورأفته وجوده وكرمه، فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كل نسب، فانقطع تعلقه بشيء سواه، فهو معرض عن عدوه الذى كان سبب غضب سيده عليه، قد محا شهوده من قلبه، فهو مقصور النظر إلى سيده وكونه فى قبضته ناظر إلى ما يصنعه، منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه.
ومثل الأول مثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت وذلك العبد يشهد دنوَّ عدوه له، ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرحمه، ولكن ما يحصل للثانى فى مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبه فهو يخنقه خنقة وهو لا يشهد إلا خنقه له، فهو يقول: اخنق خنقك، فأنت تعلم أن قلبى يحبك.
وفى هذا المثل إشارة وكفاية، ومن غلظ حجابه وكتفت طباعه لا ينفعه التصريح فضلاً عن ضرب الأمثال. والله المستعان وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله.ا.هـ.
طريق الهجرتين وباب السعادتين