الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،
دار في الآونة الأخيرة جدل ونقاش حول بعض الآراء المتعلقة بالرقية الشرعية بشكل عام ، وموضوع الجن والشياطين بشكل خاص ، وللوقوف على حقيقة الأمر ، وعرض تلك الآراء وقياسها بالأحكام الشرعية ، فقد قمت بجمع بعض الردود للعلماء والمشائخ على الشيخ القارئ علي بن مشرف العمري - وفقه الله للخير - فيما ذهب إليه ، بعد أن ألفيتها نافعة مفيدة لما فيها من مصلحة شرعية عظيمة للمسلمين ، وقبل البدء بسرد تفاصيلها ، رأيت التنويه لبعض الأمور الهامة التي لا بد أن تترسخ لدى كل مسلم ، وهي على النحو التالي :
1)- إن تحري الحق واتباعه ، وتطويع النفس البشرية للشريعة وأحكامها ، أمر لا بد أن يحوز على جانب مهم في حياة المسلم ، والحق المنشود هو ما دل عليه الكتاب والسنة والأثر الثابت عن الصحابة والتابعين وسلف الأمة وأئمتها ، وإدراك هذا المعنى بكافة جوانبه يؤدي للسعادة الحقيقية ، لما يكتنفه من رؤية واضحة المعالم بينة الأبعاد والآثار 0
2)- إن الناظر للأحكام الشرعية في مختلف نواحي الحياة ، يرى أنها قد اكتملت بوحي السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الأحكام لا تقبل زيادة أو نقصا أو تحريفا أو تبديلا أو تعطيلا ، كما نص على ذلك القرآن الكريم ، مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه : ( 000 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا 000 ) ( سورة المائدة – جزء من الآية 3 ) 0
3)- لا ينبغي النظر إلى الأمور الاعتقادية الغيبية بمنظار التجربة والبحث والدراسة والقياس ، ولا بد من الإيمان بتلك الاعتقادات كما نزلت في الكتاب والسنة ، بيقين ، دون شك أو لبس أو تأويل 0
وقد يلاحظ هذا الاتجاه حاليا في آراء الشيخ القارئ علي بن مشرف العمري - وفقه الله للخير - فيما ذهب إليه ، وقد انتهج بعض المعالجين هذا النهج وساروا عليه ، وقد أخطأوا الحق ولم يوفقوا للصواب ، وأذكر قول الدكتور عبدالفتاح شوقي ، عضو مجلس النقابة العامة للأطباء ورئيس الشركة العربية للأدوية والنباتات الطبية حيث يقول : ( إن إيمان الإنسان بالله سبحانه وتعالى وقدرته التي لا حدود لها وأنه فوق كل شيء وعادل ورحيم وغفار للذنوب كل هذه الحقائق عندما تستقر في عقل ووجدان كل مسلم ولا شك أنها تعطيه معينا من القوة تساهم في تحمله ومواجهته لمشاكل الحياة وضغوطها وبذلك يتجنب الكثير من الأمراض النفسية والعضوية والعصبية 0
كما أن ارتباط المسلم بدينه يساهم في رفع معنوياته وتحصينه ضد أزمات الحياة ومشاكلها ولا شك أن في القرآن الكريم وهو كتاب الله وآياته البينات ما يغني الإنسان ويذكره بعظمة الله ويسهل له الكثير من المصاعب ، وزعم المعالجين بالقرآن بأنهم عالجوا حالات يعاني أصحابها من الفشل الكلوي والسرطان لا يمكن أن نقبله إلا بأدلة قاطعة تتمثل في تقارير طبية موثوق فيها قبل العلاج بالقرآن وتقارير وتحاليل بعد العلاج لنستطيع الحكم الصحيح فديننا دين عقل وحقائق وبراهين ) ( العلاج بالقرآن من أمراض الجان – ص 152 ، 153 ) 0
قلت : نعم إن الدين الإسلامي دين عقل وحقائق وبراهين ولا نشك في ذلك مطلقا ، والقياس في تلك الأمور يبقى ضمن نطاق العالم المادي المحسوس ، ولا يجوز مطلقا أن نطلق العنان لأنفسنا بحيث نخضع مجال العقل والحقائق والبراهين على أحوال العالم الغيبي دون النصوص الشرعية التي توجهنا إلى ذلك وتقودنا إليه ، والشق الأول من كلام الدكتور عبدالفتاح - وفقه الله للخير - فيما ذهب إليه ، كلام طيب يحدد حقائق لا نشك فيها مطلقا ، أما الشق الثاني فإنه لم يصب الحق وتجاوز حدود العقل والحقائق والبراهين ، فالحقيقة التي لا يجوز إنكارها أو طمسها هي أن القرآن الكريم رحمة وشفاء للمؤمنين ، فالحق تبارك وتعالى يقول عن ذلك في محكم كتابه : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 000 ) ( سورة الإسراء – جزء من الآية 82 ) وقد فسر علماء الأمة بأن الشفاء في هذه الآية هو شفاء لأمراض القلوب والأبدان معا ، فليس المعالجون بالقرآن من زعموا ذلك ، إنما الحكيم العليم الذي أخبر عن تلك الحقائق ، ولا يخفى على الدكتور الفاضل قصة لديغ سيد القوم الذي رقي بالفاتحة من لدغة العقرب فشفي بإذن الله تعالى ، والقصص والشواهد كثيرة جدا على ذلك ، وأوجه النصح للدكتور الفاضل خاصة وللمسلمين عامة وأخص بالذكر الأطباء العضويين والنفسيين بتقوى الله وفهم النصوص القرآنية والحديثية كما بينها الصحابة والتابعون والسلف وعلماء الأمة دون تحكيم الهوى أو تقديم العقل على النقل ، والمسلم الحق يؤمن بكل كلمة في كتاب الله عز وجل ، بل وفي كل حرف منه ، ومن حاد عن ذلك فما أرى إلا أنه يقع تحت قول الحق جل وعلا : ( 000 أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ 000 ) ( سورة البقرة – جزء من الآية 85 ) أما أن نخضع كتاب الله للتجربة والقياس وطلب الأدلة القاطعة لكي نثبت بأن القرآن يشفي من الأمراض العضوية فهذا عين الخطأ ، ويحتاج من قائله لوقفة وإعادة نظر ، وخطورة نقل ذلك بين العامة والخاصة قد يؤثر على العقيدة والمنهج والدين 0
وقد سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عن حكم من لا يؤمن بأن القرآن فيه شفاء للناس ، ويعتبر ذلك من الخرافات وأن العلاج يجب أن يكون بالأمور المادية أي عن طريق الأطباء فقط ؟
فأجاب – حفظه الله - : ( هذا اعتقاد باطل مصادم للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، كقوله تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( سورة الإسراء – جزء من الآية 82 ) ، وقوله تعالى : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) ( سورة فصلت – الآية 44 ) ، وكذا ما ورد من رقية الصحابي لذلك اللديغ بأم القرآن ، فقام يمشي وما به قلبة وغير ذلك كثير ، وبالتجربة أن هناك أمراض تستعصي على الأطباء الحذاق الذين يعالجون بالأمور المادية من الإبر والحبوب والعمليات ، ثم يعالجها القراء الناصحون المخلصون فتبرأ بإذن الله تعالى ، فإن الغالب على الأطباء إنكار مس الجن وملابسته للإنسي ، وإنكار عمل السحر وتأثيره في المسحور ، وإنكار الإصابة بالعين حيث أن هذه الأمراض تخفى أسبابها ولا يكشفها الطبيب بسماعته ومجهره أو اشاعته فيحكم بأن الإنسان سليم الجسم مع مشاهدته يصرع ويغمى عليه ، ومع إحساس المريض بآلام خفية تقلقه وتقض مضجعه وتمنعه لذيذ المنام وراحة الأجسام ، ثم إذا عولج بالرقية الشرعية زال الألم بإذن الله تعالى ، ولكن القراء يختلفون في معرفة الأدعية والأوراد والآيات التي تقرأ في الرقية ، وكذا سلامة المعتقد من الراقي وإخلاص وصفاء نيته وبعده عن المشتبهات وكذا كون المرقي عليه من أهل التوحيد والعمل الصالح والدين القيم والسلامة من المعاصي والمحرمات فإنه يؤثر بإذن الله تعالى تأثيراً عجيباً ، والله أعلم ) ( المنهج اليقين في بيان أخطاء معالجي الصرع والسحر والعين ) 0
4)- لا بد للمؤمن من اليقين الكامل بالشريعة وأحكامها ، لا يشوبه في ذلك شك أو يعتريه تردد ، والمرجع في تفسير نصوص الكتاب والسنة ، هو أقوال الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين ، وسلف الأمة وأئمتها ، فنؤمن أن القرآن شفاء لكافة أمراض البدن العضوية والنفسية والروحية ، مصداقا لقوله تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) ( سورة الإسراء – الآية 82 ) ، ومخالفة ذلك أو مناقضته ، تأويل مردود ، خارج عن الإجماع ومنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولن يقبل بأي حال تأويل التفسير لبعض الآيات من كتاب الله عز وجل ، بحيث نجعل من المستشفيات والمصحات ، مركزا وحقل تجارب لإثبات جدوى ذلك من عدمه 0
فلا بد من الإيمان القطعي الجازم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بوحي السماء ، وقد وردت الأدلة القطعية الثابتة في الكتاب والسنة بذكر بعض الأدوية الطبيعية التي جعلها الله سببا للشفاء والصحة والعافية ، كالعسل والحبة السوداء والزيت وماء زمزم ونحوه ، ومن الحماقة والسذاجة أن نضع كل تلك الأسباب ونقيسها بمنظار التجربة ، فإن أثبتت التجربة نفعها وفائدتها أخذنا بها ، وإن لم تثبت ذلك ألقيناها وراء ظهورنا وأنكرنا حقائق ثابتة أكدها القرآن الكريم والسنة المطهرة 0
وكثير من الناس لا تنفعه الأسباب ولا الرقية بالقرآن ولا غيره لعدم توفر الشروط ، وعدم انتفاء الموانع ولو شفي كل مريض بالرقية أو الدواء ، لم يمت أحد ، ولكن الشفاء بيد الله سبحانه وتحت تقديره ومشيئته 0 فإذا أراد ذلك يسر أسبابه وإذا لم يشأ ذلك لم تنفعه الأسباب 0
قال النووي : ( لكل داء دواء ، ونحن نجد كثيرين من المرضى يداوون فلا يبرؤون ، فقال : إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة ، لا لفقد الدواء ، وهذا واضح والله أعلم ) ( صحيح مسلم بشرح النووي - 13 ، 14 ، 15 / 360 ) 0
إذن فالرقية والعلاج تحتاج من المستشفي لليقين والتوجه الخالص لله سبحانه وتعالى ، ومع ذلك ترى كثيرا ممن يستشفون بالرقية الشرعية لا يمتلكون مثل ذلك اليقين 0
قال الدكتور ناصر بن عبدالرحمن الجديع : ( قال ابن العربي - رحمه الله - تعالى عن نفع ماء زمزم : وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته ، وسلمت طويته ، ولم يكن به مكذبا ، ولا يشربه مجربا ، فإن الله مع المتوكلين ، وهو يفضح المجربين ) ( التبرك أنواعه وأحكامه - بتصرف واختصار - ص 281 - 286 ) 0
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ، ومشكاة النبوة ، وكمال العقل 0 وطب غيره ، أكثره حدس وظنون ، وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه ينتفع به من تلقاه بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان ، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور – إن لم يتلق هذا التلقي – لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ، ومرضا إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة ، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور في الدواء ، ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل ، وعدم قبوله ، والله الموفق ) ( الطب النبوي – ص 35 ، 36 ) 0
5)- إن المصلحة الشرعية تقتضي مخافة الله وتقواه ، ومراجعة النفس البشرية قبل الخوض والتأويل في الأمور الاعتقادية والتعبدية ، والخوض في تلك الأمور تؤدي بصاحبها لعواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله ، والدين أمانة ومسؤولية ، كما ثبت من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما داع إلى ضلالة فاتبع ، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه ، ولا ينقص من أوزارهم شيئا ، وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع ، فإن له مثل أجور من اتبعه ، ولا ينقص من أجورهم شيئا ) ( صحيح الجامع 2712 ) 0
قال المناوي : ( " أيما داع إلى ضلالة فاتبع " أي اتبعه على تلك الضلالة أناس " فإن عليه مثل أوزار من اتبعه " على ذلك " ولا ينقص من أوزارهم شيئا " فإن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " وأيما داع إلى هدى فاتبع " أي اتبعه قوم عليها " فإن له مثل أجور من اتبعه " منهم " ولا ينقص من أجورهم شيئا " فإن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قيل وذا شمل عموم الدلالة على الخير قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ( سورة النحل – الآية 125 ) ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) ( سورة المائدة – الآية 2 ) ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) ( آل عمران – الآية 104 ) وفيه حث على ندب الدعاء إلى الخير وتحذير من الدعاء إلى ضلالة أو بدعة سواء كان ابتدأ ذلك أو سبق به ) ( فيض القدير – 3 / 159 ) 0
6)- من سمات المؤمنين الصادقين تراجعهم عن الخطأ ، وتحري الصواب ، والعودة والإنابة للحق ، والإستغفار من الذنب ، ودعاء الخالق ، كما أخبر الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه : ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ( سورة آل عمران - الآية 147 ) 0
7)- ومن أدب المسلم الجم ، احترام العلماء وتقديرهم ، وتوقيرهم ، ووضعهم في المكانة التي أرادها لهم الشرع والدين 0
فكيف إن كان الأمر يتعلق بأئمة أعلام وهبوا الكثير لهذا الدين وأهله ، فعاشوا مدافعين ومنافحين عنه ، وماتوا في سبيل ذلك ، كالتابعين وسلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، ألا يجدر بنا أن نهبهم من الحب والتقدير ما هم أهل له 0
8)- نعترف أن لكل صنعة حاذق ، ونقر للأطباء علمهم وتخصصهم ، إن وفقوا في عملهم هذا وفق شرع الله ومنهجه ، فرسخوا اليقين في قلوب المرضى ، وبينوا لهم أن الله سبحانه وتعالى وحده الشافي المعافى ، وأنهم أسباب يسرها الله تعالى للشفاء ، أما أن يرسخوا في نفوسهم التعلق بالطبيب والعلاج ، والأمور المعنوية الحسية ، فهؤلاء يحتاجون للعلاج ، لأنهم مرضى القلوب ، يحتاجون للدواء ممن يملك الدواء 0
9)- إن المسلم يقر بالتجربة والخبرة ويعلم أن لهما دورا في الأمور الحياتية والمعيشية ، ولكن حال تعارضهما مع الأحكام الشرعية ، مهما كانت النتائج ، وأي كان قائلها أو الجهة التي أصدرتها ، فإنه لا يؤخذ بهما ولا يعول عليهما 0
كأن يقال بأن التجربة أثبتت النفع بالاستشفاء بالمحرم كالخمر مثلا ، أو أن يقال بأن الخبرة والتجربة أثبتت عدم دخول الجني بدن الإنسي ، وهذا بحد ذاته يتعارض مع النصوص الصريحة الواضحة والثابتة في الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين ، عند ذلك يضرب بتلك الأقوال عرض الحائط وتنحى جانبا لمخالفتها لتلك النصوص المشار إليها ، وهذا ما يجب أن يكون عليه منهج وحياة كل مسلم 0
10)- لا يجوز قطعا القياس في مسائل كثيرة على حادثة معينة ، ولا يجوز أن تبنى الأحكام الشرعية على حادثة عارضة حيث أن تلك الأحكام واضحة وبينة خاصة إن كان الأمر يتعلق بموضوع الرقية الشرعية وعالم الجن والشياطين 0
إن بعض الأمور المتعلقة بالرقية الشرعية تبقى ضمن النطاق الاعتقادي الغيبي ، وأما بالنسبة لعالم الجن والشياطين فكل ما يتعلق بهذا العالم يعتبر من الأمور الاعتقادية الغيبية ، ولا يجوز مطلقا قياس كافة الحالات المرضية على حالة نفسية بعينها ، إلا بعد الدراسة والبحث والتقصي ومتابعة الأمر ، ومن ثم تحديد ما يتعلق بالحالة من ظروف وملابسات ، كما بينت في أحد فصول هذا الكتاب ، وليست المصلحة الشرعية قطعا أن تبني الأحكام على حادثة بعينها ونشر ذلك في كل سارحة وواردة 0
11)- إن تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يؤخذ من منابعه :
* تفسير القرآن بالقرآن 0
* تفسير القرآن بالسنة 0
* تفسير القرآن بالأثر 0
وأما تفسير القرآن بالرأي المستند للهوى كرائد ، والمذهب كقائد ، فهذا تفسير باطل مردود ، لا يقبل بأي حال من الأحوال 0
وتحت هذا العنوان لا بد أن أعرج على مسألة هامة تتعلق بموقف العلماء من التفسير بالرأي ، فقد اختلف العلماء منذ قديم الزمان في جواز تفسير القرآن بالرأي ، ووقف المفسرون إزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :
( فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرأوا على تفسير شيء من القرآن ، ولم يبيحوه لغيرهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وإنما له أن ينتهي إلى ما روى النبي صلى الله عليه وسلم وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة -رضي الله عنهم- ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين ) ( مقدمة التفسير - 422 ، 423 ) 0
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك ، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم ، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده 0
ولو حللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا ، لظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي ، ولبيان ذلك نقول :
الرأي قسمان : قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول ، مع موافقة الكتاب والسنة ، ومراعاة سائر شروط التفسير ، وهذا القسم جائز لا شك فيه ، وعليه يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي 0
وقسم غير جار على قوانين العربية ، ولا موافق للأدلة الشرعية ، ولا مستوف لشرائط التفسير ، وهذا هو مورد النهي ومحط الذم ، وهو الذي يرمي إليه كلام ابن مسعود إذ يقول : ( ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع ، وإياكم والتنطع ) وكلام عمر إذ يقول : ( إنما أخاف عليكم رجلين ، رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه ) وكلامه إذ يقول : ( ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ، ثم تأوله على غير تأويله ) ، فكل هذا ونحوه ، وارد في حق من لا يراعي في تفسير القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة ، جاعلا هواه رائده ، ومذهبه قائده ، وهذا هو الذي يحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأي ، وقد قال ابن تيمية - بعد أن ساق الآثار عمن تحرج من السلف من القول في التفسير - فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف ، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به ، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ، ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة ، لأنهم تكلموا فيما علموه ، وسكتوا عما جهلوه ، هذا هو الواجب على كل أحد ، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به ، كذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه ، لقوله تعالى : ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) ( سورة آل عمران – الآية 187 ) 00 ولما جاء في الحديث المروي من طرق : ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) " صحيح الجامع 6517 " ) ( مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير – ص 31 ، 32 ) 0
وإذا قد علمنا أن التفسير بالرأي قسمان : قسم مذموم غير جائز ، وقسم ممدوح جائز ، وتبين لنا أن القسم الجائز محدود بحدود ، ومقيد بقيود ، ولا بد من توفر العلوم والأدوات المكملة التي يحتاج إليها المفسر ليخرج عن كونه مفسرا للقرآن بمجرد الرأي ومحض الهوى ) ( التفسير والمفسرون – باختصار وتصرف – ص 246 ، 255 ) 0
وقد أورد الترمذي بابا من أبواب تفسير القرآن بدأ به بعنوان ( باب الذي يفسر القرآن برأيه ) :
( قال ابو عيسى : وروي عن بعض أهل العلم ، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا ، في هذا ، في أن يفسر القرآن بغير علم ، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم : أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم ، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا ، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم ) ( صحيح الترمذي 2350 ) 0
وقال : ( عن قتادة قال : ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا ) ( أخرجه الترمذي في سننه - كتاب تفسير القرآن ( 1 ) - برقم ( 3137 ) - وقال الألباني متنه صحيح وإسناد الترمذي مقطوع ) 0
وقال : ( عن الأعمش قال : قال مجاهد : لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن اسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت ) ( أخرجه الترمذي في سننه - كتاب تفسير القرآن ( 1 ) - برقم ( 3138 ) - وقال الألباني متنه صحيح وإسناد الترمذي مقطوع ) 0
12)- ليست المصلحة الشرعية إيقاع الفتنة بين الناس وترسيخ بعض الاعتقادات المخالفة صراحة لنصوص الكتاب والسنة والأثر ، وتصدر الأجهزة المرئية والسمعية وبث ذلك بين العامة والخاصة ونشره بينهم 0
13)- إن مسألة الصرع ودخول الجني في بدن الإنسي مسألة منتهية لا نقاش فيها ولا جدال ، حددها الشرع وبينها علماء الأمة وأئمتها ، فأصبحت هذه المسألة ثابتة عقلا ونقلا 0
قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - : ( أما إنكار دخولهم في الإنس ، فلا يقتضي الكفر ، لكنه خطأ ، وتكذيب لما ثبت في الأدلة الشرعية والواقع المتكرر وجوده ، لكن لخفاء هذه المسألة لا يكفر المخالف فيها ، ولكن يخطأ ، لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل ، وإنما يعتمد على عقله وإدراكه ، والعقل لا يتخذ مقياسا في الأمور الغيبية ، وكذلك لا يكون العقل مقدما على أدلة الشرع ، إلا عند أهل الضلال ) ( السحر والشعوذة – ص 84 ، 85 ) 0
وهذا لا يعني مطلقا أن بعض الحالات قد تظن وتتوهم الإصابة بمرض الصرع والسحر والعين وهي مخطئة في ظنها ، وحقيقة الأمر أنها لا تعاني إلا من وساوس أو أعراض ليس لها علاقة بهذه الأمراض من أساسها ، وأما إطلاق الأمر دون ضابط ، والاعتقاد بأن معظم الحالات المرضية تعاني من أمراض نفسية ، أو إنكار هذا الموضوع أصلا ، فكل ذلك يحتاج للتريث وعدم التسرع في إطلاق الأحكام جزافا ، وكذلك الدراسة الموضوعية الجادة من قبل الأطباء النفسيين والمعالجين بالقرآن ، وكل ذلك سوف يؤتي بثمار أكلها طيب ونفعها عظيم للإسلام والمسلمين 0
ولا بد من الاعتقاد الجازم بأن المفاسد المترتبة على طرح مثل ذلك الأمر عظيمة وعواقبها خطيرة وخيمة 0
14)- لا بد أن يعتقد المؤمن جازما متيقنا أن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، كما ثبت في حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها ) ( صحيح الجامع 1685 ) 0
فيجب على الإنسان أن لا يغتر بقوته وسلطانه وجبروته ، وبما اعطي من علم ومال وبنين ، وليعلم أن الذي أعطى قادر على أن يأخذ ، فليحمد الله على نعمه ، ويشكره على فضله ، ويجعل تلك الحقائق مترسخة في قلبه وعقله ، لا تغره الدنيا وزخرفها ، ويسأل الله الثبات في الدنيا وعند الممات 0
* تعقيب سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله :
طالعتنا مجلة المسلمون الصادرة يوم الجمعة الموافق 15 ربيع الأول سنة 1416 للهجرة في عددها ( 149 ) برد لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – بعنوان ( ما ذكره العمري من تصحيح مذهبه قول باطل وكذب ) يقول فيه :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه أما بعد : فلقد اطلعت على ما نشرته صحيفة " المسلمون " في عددها الصادر في يوم الجمعة 8/3/1416 هـ من الأسئلة الموجهة إلى علي بن مشرف العمري ، وأجوبته عنها ، وهذا نص ما ذكرته الصحيفة :
- القرآن ليس شفاء لجميع الأمراض العضوية والنفسية 0
- ابن باز شيخي وأقرني على مذهبي الجديد 0
- أتحدى معالجة السرطان بالقرآن 0
* هل تعتبر جريان الشيطان من ابن آدم الوارد في الحديث جريانا غير حسي ؟
- نعم فعندنا نصوص تدل على هذا ثم هو استعارة كما قال العلماء 0 فالحديث الوارد لا يفيد الجريان الحسي ، ولو سلمنا جدلا بأنه جريان حسي فهو خاص بالموسوس لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في الموسوس 0
* إذا ما زلت تصر على أن الجني لا يمكن أن يتلبس بأنسي بأي حال من الأحوال ؟
- أبدا لا يمكن أن يتلبس الجني الإنسي 0
- إذا أنت لا تعترض إلا على من يقرأ على من به جني ؟
- نعم ، أنا لما كنت في أبها ألقيت محاضرة بذلك 0 وكنت في أبها قبلها وقد ناقشت البعض فكان يرى عدم التلبس وأراه ، ولما عدت لرأيه ألقيت المحاضرة في أبها وكتب عنها ، فعندها الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – لما سمع بذلك استغرب وتأثر لما سمع بهذا فاستدعاني ، فذهبت إليه بالطائف فقلت له يا شيخ أريدك أن تستمع إلى ما توصلت إليه –والشيخ - حفظه الله - رجل عاقل وحبيب وعالم جليل ، فاستمع إلى أن قلت من أوله إلى آخره ، فقال لي والله الحق معك ويجب أن تسير على هذا المنهج ولا تبالي بأحد 0
- قال لك : الحق معك 0 أي أن الجني لا يتلبس بالإنسي ؟!
- الموضوع ككل لما شرحته له ، فخرجت من عند الشيخ ابن باز وكتبت في الصحف : " إخراج الجني من بدن الإنسان ادعاء كاذب " فالشيخ ابن باز لديه خلفية ولو خالفني لرد علي في هذا الموضوع ولكني بعد أن استوثقت من سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله - ، وأنه قال لي : " اكتب هذه المعلومات " فبدأت بهذا الموضوع 0
هذه نبذة عن بعض الآراء الخاصة للشيخ القارئ علي بن مشرف العمري – وفقه الله للخير - فيما ذهب اليه ، ويرد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – على ذلك فيقول :
هذه خلاصة ما ذكرته الصحيفة عن علي المذكور في عددها المذكور في التاريخ المذكور ، فأقول أن ما ذكره عني علي المذكور من تصحيح مذهبه ، قول باطل وكذب لا أساس له من الصحة ، وقد نصحته حين اجتمع بي منذ سنة أو أكثر أن يفصل القول في ذلك وأن يعترف بتلبس الجني بالإنسي كما هو الحق الذي أجمع عليه العلماء ونقله أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم كما في الفتاوى الجزء التاسع عشر من الصفحة التاسعة إلى الصفحة الخامسة والستين ، وقد أوضحت لعلي المذكور أنه ليس كل ما يدعيه الناس من تلبس الجني بالإنسي صحيحا ، بل ذلك تارة يكون صحيحا في بعض الأحيان ويكون غير صحيح في أحيان أخرى بسبب أمراض تعتري الإنسان في رأسه تفقده الشعور فيعالج ويشفى وقد لا يشفى ويموت على اختلال عقله ، وقد يختل العقل بأسباب ووساوس كثيرة تعتري الإنسان ، فالواجب التفصيل ، وقد أوضح ذلك ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد ، وقد حصل لشخص من سكان ، الدلم ، حين كنت في قضاء الخرج خلل في عقله فلما عرض على المختصين ذكروا أن سبب ذلك فتق في الرأس فكوي وبريء من ذلك بإذن الله ، وهذا نص كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى في المجلد المذكور قال : ما نصه بعد كلام سبق : " ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجني في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا القول في المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم كظهور هذا ، وإن كانوا مخطئين في ذلك ، ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون أن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ) ( سورة البقرة – جزء من الآية 275 ) ، وقال عبدالله بن الإمام أحمد ، قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي ، فقال : يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه ، وهذا مبسوط في موضعه ، وقال أيضا - رحمه الله – في المجلد الرابع والعشرين من الفتاوى ص 276 – 277 ما نصه : وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق سلف الأمة وأئمتها ، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة 0 قال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ) 0
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) ( متفق عليه ) ، إلى أن قال - رحمه الله - : وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع ، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك0الخ 0 وبما ذكرنا يعلم بطلان ما ذهب إليه علي المذكور ، من إنكار دخول الجني في بدن الإنسان ، ويعلم كذب علي في دعواه أني صدقته في ذلك وصححت مذهبه ، وقد كتبت في ذلك ردا على من أنكر دخول الجني في بدن الإنسي منذ سنوات ونشر ذلك في كتابي ، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، في المجلد الثالث صفحة 299 - 308 ، فمن أحب أن يطلع عليه فليراجعه في محله المذكور ، وأما قول علي المذكور لو أنكر علي لرد علي ، فجوابه أنه ليس كل ما نشر في الصحف من الأخطاء اطلع عليه لكثرة ما ينشر في الصحف وكثرة مشاغلي عن الاطلاع على ذلك ، والله ولي التوفيق ونسأله سبحانه أن يحفظنا من الخطأ والزلل في القول والعمل 0 وأما إنكار علي المذكور كون القرآن الكريم شفاء لبعض الأمراض البدنية فهو أيضا قول باطل ، وقد أوضح الله سبحانه أن في كتابه العظيم شفاء فقال سبحانه في سورة بني إسرائيل : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) ( سورة الإسراء – الآية 82 ) ، وقال سبحانه في سورة فصلت : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) ( سورة فصلت – جزء من الآية 44 ) ، والآيتان المذكورتان تعمان شفاء القلوب وشفاء الأبدان ، ولكن لحصول الشفاء بالقرآن وغيره شروط وانتفاء موانع في المعالج والمعالج ، وفي الدواء ، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الشفاء بإذن الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء بريء بإذن الله ) ( صحيح الجامع 5164 ) ، وكثير من الناس لا تنفعه الأسباب ولا الرقية بالقرآن ولا غيره لعدم توفر الشروط وعدم انتفاء الموانع ولو كان كل مريض يشفى بالرقية أو الدواء لم يمت أحد ، ولكن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء0فإذا أراد ذلك يسر أسبابه وإذا لم يشأ ذلك لم تنفعه الأسباب0 وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنه كان إذا اشتكى شيئا قرأ في كفيه عند النوم سورة قل هو الله أحد وسورة قل أعوذ برب الفلق وسورة قل أعوذ برب الناس ثلاث مرات ثم يمسح بهما على ما استطاع من جسده في كل مرة بادئا برأسه ووجهه وصدره 0 وفي مرض موته – عليه الصلاة والسلام – كانت عائشة – رضي الله – عنها تقرأ هذه السور الثلاث في يديه عليه الصلاة والسلام ثم تمسح بهما رأسه ووجهه وصدره رجاء بركتهما ، وما حصل فيهما من القراءة فتوفي صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك لأن الله سبحانه لم يرد شفاءه من ذلك المرض لأنه قد قضى في علمه سبحانه وقدره السابق أنه يموت بمرضه الأخير- عليه الصلاة والسلام – وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الشفاء في ثلاث : شربة عسل أو شرطة محجم أو كية نار وما أحب أن اكتوي ) ( متفق عليه ) ، ومعلوم أن كثيرا من الناس قد يعالج بهذه الثلاثة ولا يحصل له الشفاء ، لأن الله سبحانه لم يقدر له ذلك وهو سبحانه الحكم العدل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وفي الصحيحين : ( أن ركبا من الصحابة - رضي الله عنهم - مروا على قوم من العرب وقد لدغ سيدهم فسعوا له بكل شيء لا ينفعه فسألوا الركب المذكور هل فيكم راق 0 فقالوا : نعم 0 وشرطوا لهم جعلا على ذلك فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب فشفاه الله في الحال وقام كأنما نشط من عقال 0 فقال الذي رقى لأصحابه : لا نفعل شيئا في الجعل حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحاب اللديغ لم يضيفوهم فلهذا شرطوا عليهم الجعل ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بما فعلوا ، فقال :" قد أصبتم واضربوا لي معكم بسهم " ) ( متفق عليه ) ، ففي هذا الحديث الرقية بالقرآن وقد شفى الله المريض في الحال 0 وصوبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وهذا من الاستشفاء بالقرآن من مرض الأبدان ، وقد أخبر الله سبحانه في آية أخرى في سورة يونس أن الوحي شفاء لما في الصدور ، وهي قوله سبحانه : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( سورة يونس – الآية 57 ) ، وكون القرآن شفاء لما في الصدور لا يمنع كونه شفاء لمرض الأبدان ولكن شفاءه لما في الصدور أعظم الشفاءين وأهمهما ، ومع ذلك فأكثر الناس لم يشف صدره بالقرآن ولم يوفق للعمل به كما قال سبحانه في سورة الإسراء : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) ( سورة الإسراء – الآية 82 ) ، وذلك بسبب إعراضهم عنه وعدم قبول الدعوة إليه ، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يعالج المجتمع بالقرآن ويتلوه عليهم ويدعوهم إلى العمل به فلم يقبل ذلك إلا القليل كما قال الله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) ( سورة سبأ – الآية 20 ) ، وقال سبحانه : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ( سورة يوسف – الآية 103 ) ، فالقرآن شفاء للقلوب والأبدان ولكن لمن أراد الله هدايته ، وأما من أراد الله شقوته فإنه لا ينتفع بالقرآن ولا بالسنة ولا بالدعاء إلى الله سبحانه لما سبق في علم الله من شقائه وعدم هدايته كما قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ ) ( سورة الأنعام – جزء من الآية 135 ) ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لأمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) ( سورة يونس – الآية 99 ) الآية ، وقال سبحانه في سورة التكوير : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( سورة التكوير – الآية 28 ، 29 ) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة 0 وهكذا الأحاديث الصحيحة وأما تأويل علي بن مشرف الحديث : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) ( متفق عليه ) ، بأنه على سبيل الاستعارة كما حكاه الحافظ بن حجر في الفتح عن بعضهم أو أن ذلك بالنسبة لبعض الموسوسين كما قاله علي المذكور ، فهو قول باطل 0 والواجب إجراء الحديث على ظاهره وعدم تأويله بما يخالف ظاهره لأن الشياطين أجناس لا يعلم تفاصيل خلقتهم وكيفية تسلطهم على بني آدم إلا الله سبحانه 0 فالمشروع لكل مسلم الاستعاذة به سبحانه من شرهم والاستقامة على الحق واستعمال ما شرعه الله من الطاعات والأذكار والتعوذات الشرعية ، وهو سبحانه الواقي والمعيذ لمن استعاذ به ولجأ إليه لا رب سواه ولا إله غيره ولا حول ولا قوة إلا به ، ونسأل الله سبحانه أن يثبتنا على دينه وأن يعيذنا وجميع المسلمين من اتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق المسلمين لكل خير وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم وأن يصلح قادتهم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين 0
يتبع