هذه المرة سيكون موضوع كتابنا هو سيرة رجل من أشرف وأطهر الرجال؛ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه؛ رجل عاني في حياته ما لم يعانيه أشد الرجال وأقواهم وأشجعهم وأصبرهم، وعاني من بعد مماته ممن طعن فيه وفي أهله وعرضه، أو غالي فيه مغالاة النصاري في مسيحهم عليه الصلاة والسلام. فرغم قرابته من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وزواجه من ابنته الزهراء فاطمة وكل نسل البيت منه ومنها، ورغم أنه أول من أسلم من الغلمان فهو ربيب رسول الله صلي الله عليه وسلم وختنه، ورغم ما شاهد من المشاهد والمغازي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن بعده أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، رغم هذا كله وأكثر لم يشفع له عند كثير من الناس ممن أضل الله قلوبهم أو غشي علي عقولهم فطعنوا فيه وفي عترته من بعده. وكان هذا لأن علي بن أبي طالب كان أحد أطراف الفتنة الكبري التي وقعت بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وكان معاوية بن أبي سفيان طرفها الآخر؛ ومعه أم المؤمنين عائشة وحواري الرسول الزبير وصاحبه طلحة بن عبيد الله. هذه الفتنة التي لم يجتمع المسلمين من بعدها علي أمر جامع منذ زمنهم هذا إلي زمن كتابة تلك السطور. تلك الفتنة التي حصدت من أمة الإسلام الألوف، من بينهم أئمة المسلمين من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم وبنيهم والتابعين. تلك الفتنة والتي إن أخضعناها للبحث والتحري لوجدنا أن لكل طرف منهما حق فيما ذهب إليه وإن كان الحق أظهر وأبين مع علي بن أبي طالب ومع من ذهب مذهبه من الصحابة والتابعين، فكل ذي ثقة من أهل العلم والتاريخ قد صرح بصواب مذهب علي بن أبي طالب علي مذهب معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين بأدلة لا يحصيها إلا أولي الألباب، ونحن نقول أن كلاهما قد أفتي واجتهد وهم أهل الفتوي والإجتهاد وكما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الحاكم لو إجتهد فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران. وعليه نقول أن معاوية اجتهد وأخطأ وله أجر، وأن علي اجتهد وأصاب وله أجران.
وقد قال فيه الإمام الحسن البصري إذ أقبل عليه رجل من الأزارقة فقال: يا أبا سعيد ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فاحمرت وجنتا الحسن، وقال: رحم الله عليًا، إن عليًا كان سهمًا لله صائبًا في أعدائه، وكان في محلة العلم أشرفها وأقربها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رهباني هذه الأمة، لم يكن لمال الله بالسروقة، ولا في أمر الله بالنومة، أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه، فكان منه في رياض مونقة، وأعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب يالكع.
قلت: بل وأكثر من ذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه من أزهد الناس، كانت الدنيا لا تعنيه في شيء؛ قال حرملة: عن عبد الله بن أبي رزين الغافقي قال: دخلنا مع عليّ يوم الأضحى فقرب إلينا خزيرة. فقلنا: أصلحك الله لو قدمت إلينا هذا البط والأوز، فإن الله قد أكثر الخير. فقال: يا بن رزين إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يطعمها بين الناس. وقال أبو عبيد: عن مروان بن عنترة، عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبًا في هذا المال وأنت ترعد من البرد؟ فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي أو قال من المدينة. وقال أبو نعيم: سمعت سفيان الثوري يقول: ما بنى علي لبنة ولا قصبة على لبنة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب. وقال يعقوب بن سفيان: عن مجمع بن سمعان التيمي قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق فقال: من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارًا ما بعته. وقال عبد الله بن المبارك في الزهد: عن بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب ذات يوم وعليه بردان متزر بأحدهما مرتد بالآخر قد أرخى جانب إزاره ورفع جانبا، قد رفع إزاره بخرقة فمر به أعرابي فقال: أيها الانسان البس من هذه الثياب فإنك ميت أو مقتول. فقال: أيها الأعرابي إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو، وخيرًا لي في صلاتي، وسنة للمؤمن. وكان عليّ من أتقي الناس وأعدلهم حتي مع من خالفه في الدين؛ جاء عن الشعبي: وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح يخاصمه، قال: فجاء علي حتى جلس جنب شريح وقال: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، مالي بينة. فقضى بها شريح للنصراني. قال: فأخذه النصراني ومشى خطًا ثم رجع؛ فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد إن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق. فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس. قال الشعبي: فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج يوم النهروان. وقال سعيد بن عبيد عن علي بن ربيعة: جاء جعدة بن هبيرة إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا؟ قال: فلهزه علي؛ وقال: إن هذا شئ لو كان لي فعلت، ولكن إنما ذا شئ لله. وكان علي من أكثر خلق الله تواضعًا وهو من هو من شرف النسب وسبق الإسلام وإمارة المؤمنين؛ قال أبو القاسم البغوي: عن صالح بياع الأكسية عن جدته قالت: رأيت عليًا اشترى تمرًا بدرهم فحمله في محلفته؛ فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا تحمله عنك؟ فقال: أبو العيال أحق بحمله. وعن عبادة بن زياد عمن حدثه: أنه رأى عليًا قد ركب حمارًا ودلى رجليه إلى موضع واحد؛ ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا. وقال يحيى بن معين: عن علي بن الجعد عن الحسن بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وكان علي مستجاب الدعاء؛ قال أبو بكر بن أبي الدنيا عن زاذان، أبي عمر: أن رجلًا حدث عليًا بحديث فقال: ما أراك إلا قد كذبتني، قال: لم أفعل قال: أدعو عليك إن كنت كذبت، قال: ادع! فدعا فما برح حتى عمي. وعن أبي مكين قال: مررت أنا وخالي أبو أمية على دار في محل حي من مراد، قال: ترى هذه الدار؟ قلت: نعم! قال: فإن عليًا مر عليها وهم يبنونها فسقطت عليه قطعة فشجته فدعا الله أن لا يكمل بناؤها، قال: فما وضعت عليها لبنة، قال: فكنت فيمن يمر عليها لا تشبه الدور. قال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني أنه قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب عليًا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق. أقول: هذه نبذة يسيرة مما سنقرأه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سائلين الله تعالي أن يجمعنا ورسوله صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام الأسياد في جنة عرضها السموات والأرض، اللهم آمين آمين.
من كتاب العبقري علي. تأليف؛ إسماعيل مرسي أحمد