” أنا عندي حنين .. بس عارف لمين ! “
يشتعل في قلبي .. أحن له .. أود أن أراه وأشتمه .. وأشبع ناظري منه !
في داخلي مساحات شاسعة تنتظر منه أن يملأها .. أن يتملكها .. أن يتجول فيها ويستلقي بظلالها ..
حنين مفقود !
إلى رائحة يد جدي وتجاعيدها .. إلى رائحة المطر وهو يختلط بالتراب !
حنين ..
حنين .. إلى لعبتي وأنا صغير .. إلى سيكلي وكرتي وملعبي في فناء البيت !
حنين .. إلى رائحة الحناء في يد أمي ..
حنين إلى الكتاب الكبير .. والمسارات الطويلة في الجامعة ..
حنين .. مفقود !
حنين .. إلى صديقي الذي قرر هجري .. حنين إلى أيامه معي ومشاجراتنا وخلافنا دوماً ..
حنين إلى أبيات الشعر التي أحفظها من مادة النصوص .. إلى جلستي بين يدي مدرس الحلقة فأسمع عليه حفظي ..
حنين ..
حنين مفقود !
لشيء غريب .. عجيب .. لا أعرفه ولا يعرفني !
هذه المقطوعة بعاليه .. من وحي اللحظة ..
لا أدري ما الذي دفعني لأكتب هذه السلسلة .. سوى أنني أجد في أعماقي خواء يحتاج لملئ .. وفراغاً ينتاب القلب أحياناً فيتعبه ويهلكه ويضنيه ..
هذا الحنين .. تظنه للحظات هو شعور حب جارف .. سيل من الهيام سيغطي أيّ شيء يقابله .. ولو شجرة خضراء أو حديقة غناء أو بحراً هائجاً أو صحراء بلقعاً !
تبحث عنه فلا تكاد تجده .. تسير هائماً على وجهك والتعجب يعلوه .. تريد تفسيراً فلا شيء !
هذا الحنين .. هو نتيجة فقد !
وهو نتيجة حتمية لفراغ ..
تحس أن جزءاً منك مفقود .. لا تعرف كنهه ولا تتبين معالمه ..
احتياج .. بل اجتياح يتلبسك .. يكسوك .. يغطيك ويدثرك .. وبنفس الوقت .. يعرّيك !
هذا الحنين .. يدعك لا تنام الليل ولا النهار .. ولا تشعر بالراحة ولا بالأمان ..
تشك .. وفي أي شخص توقن أنه هو الذي تبحث عنه ..!
حنين .. يجعلك متشتت الفكر والعقل والقلب والشعور والوجدان ..
حنين مفقود .. لشخص لم تقابله .. لم تره عيناك .. لم تلمسه يداك ولم يأتِ عالمك بعد …
أين يوجد .. لا تدري سوى أنك في حاجة له .. كما هو في حاجة لك ..
زارك طيفه في المنام يوماً .. قال لك اسمه .. وذهب !
لم تره عيناك بعدها … ولا زلت تسبر أغوار الأرض تبحث عن هذا الحنين المفقود ..
مات ؟
لا .. لو مات لمتّ معه في نفس اللحظة ..
توأمك ؟
نعم .. تبكي في نفس اللحظة التي يبكي بها .. ويضيق صدرك حين يضيق صدره .. وتهتم لحظة همه !
قريبك ..؟
بل ربما لا يكون التقاؤك به إلا من نوح !
بعيد عنك ؟
بل أقرب إليك من روحك .. يتحكم بعواطفك .. فحين يغضب يحمر وجهك .. وحين يفرح تنبلج أساريرك !
أين هو !؟
أصعب من أن أجيب عن ذلك .. فهو معك وإن كان في أبعد نقطة عنك !
تحن إليه وهو بين أضلعك .. وتشتاق إليه عينك وهو في سوادها .. أو زرقتها أو عسليتها !
متى تلقاه ؟
لا يدري هو .. لكنك تدري أنت !
لأنك تلقاه في كل لحظة وفي كل دقيقة ..
تلقاه في مكتبك وسيارتك وقلمك وفصلك وعملك وشارعك ..
تلقاه في الحروف والكلمات والكتب والأشعار والعبرات والدموع والضحكات …
تلقاه في كل شيء جميل .. ورائع وفاتن ويأخذ العقل !
تلقاه .. في حشاشة قلبك وسويداؤه وحبته وأصله وفصله ورمزه وقاعدته !
تلقاه في مخك وعظمك وخلايا دمك ويدك وأذنك ..
تلقاه معك دوماً ..
لأنه هو الحنين المفقود .. الذي ستبكي حال تراه …
م/ محمد الصالح